أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

منِشحَد اللايك من داخل القبر

الخميس 01 أيلول , 2016 08:41 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 24,979 زائر

منِشحَد اللايك من داخل القبر

كنتُ أقول دائماً إنني أرفض زيارة الطبيب النفسي، ليس خوفاً من اكتشافاته، بل حرصاً منّي على إنّو ما يتعقّد من كمّية المشاكل النفسية التي أختزنُها، مِثلي مِثل كلّ أبناء جيل لبنان السبعينات والثمانينات... ما في شي عيب لأنّه لم يكن الحقّ علينا في كلّ ما أصابَنا، ليس الحقّ علينا إذا كبرنا بلا طفولة وبلا ذكريات وردية وبلا نوستالجيا حنونة.

نحن جيل يَعرف "فوبياته" وعقدَه وأمراضَه النفسية ويعرف أسبابَها، ولم تكن سوى تلك الرصاصة والقذيفة والأصوات العالية والحياة في الملاجئ وبين الجثث والردم إلّا المقدّمات لبؤسِنا النفسي المجبول بهويتِنا كراشدين. نحن إذا ذهبنا إلى طبيب نفسي للعلاج، يمكن أن يسرقَ بأدويته جزءاً من ذاكرتنا وشخصيتنا، ويمكن أن يجعلنا أصحّاء فنخسرَ هويتنا بين كلّ هذا الجنون.

نحن مجانين ونَعتزّ ونفتخر، لكن من أين هبَط على الأجيال الصاعدة كلّ هذا الغباء، ومتى أصبَحنا محقونين بكلّ هذه السادية الاجتماعية وبكلّ هذا الاستخفاف بمآسي الناس وأوجاعهم؟ ويا ترى ما هي أسباب هذا الغباء وخلفيتُه، وماذا يمكن أن يجعل مجتمعاً بإمّو وأبُو يَقتل الميت وينتحر المنتحر ويمشي منتصباً في جنازات ضحاياه؟

كيف طوّرنا كلّ هذه الحشرية على نبشِ القبور والرقص بنعوش غرباء لم نَلتقِهم في حياتنا؟ فنحن الذين ربِينا في مسيرات المآتم وعلى أصوات الأمّهات المنتحبات لا زلنا نختزن في نفسياتنا المفخوتة ما يكفي من عصير الحنّية والحشمة والاحترام، أمّا هؤلاء الجُدد فأين يَهدرون حِسَّهم الإنساني؟

أصبح الواحد منّا اليوم يفكّر بأفضل طريقة للموت بين اللبنانيين، الطريقة التي ستُجرجر له أقلَّ كمّية من التحليلات والتفسيرات والسباقات الصحافية والفيسبوكية بعد مماته، أصبح الواحد يخاف أن يموت بين اللبنانيين أكثر ممّا يخاف من الموت نفسه... ولا بدّ أن نبدأ اتّباع سياسات صارمة تَضمن لنا رحيلاً يسبّب أقلّ قدرٍ مِن التطفّل الجماعي في حياة خاصة لم يكن أحد يكترث لها ولمشاكلها وأوجاعها وكوارثها أثناء حياتنا... فلا بدّ أن نوقف الأدوية المشبوهة والمشاكل العائلية على صوت عالٍ، والانتباه إلى كلّ ما نَكتبه ونقوله واسترضاء كلّ الأصحاب والزملاء والأعداء وشوفيرية التاكسي، لأن كلّ فنجان قهوة في غير ميعاده يمكن أن يحتسب علينا محفّزاً جرمياً.

نحن لا نعرف إذا شهدت عمليات الانتحار في لبنان ازدياداً خلال السنوات القليلة الماضية أم لا... لكنْ هناك ازدياد مفرط في استغرابنا من كلّ محاولة انتحار ناجحة أو فاشلة ومن كلّ عملية قتل رحيم أو غشيم.

ويلّي بيسمعنا بيصدّق أننا لا نعيش فراغاً فكرياً واجتماعياً وأخلاقياً مهولاً، وينسى أن كلّ يوم طبيعي روتيني نمضيه في هذا البلد هو عملية انتحار فاشلة بحدّ ذاته، ثمّ ننام ونستيقظ في اليوم التالي لاختبار محاولة أخرى، حتى يأتي اليوم الذي تنجح فيه... هلّق عنجَد، ماذا يمكن أن نسمّي عيشَنا بين كلّ هذه النفايات والعبوات والرشاشات والمتفجّرات والمحسوبيات والسرطانات سوى محاولات انتحار فاشلة؟

تتعدّد أسباب الانتحار، مِن نفسية إلى اجتماعية ومادية وعاطفية، وأيّ شيء يفوق طاقة الإنسان على التحمّل يمكن أن يدفعَه إلى الانتحار... وفي بلد مِثل لبنان، عندما يقرّر شعب أن يأتمنَ مخلّفات حربه الأهلية على مستقبله ومستقبل أولاده، وعندما يكون "بيموت" بالزعيم والحزب والتيار والايديولوجيا التهديمية، يكون قرّر ممارسة الانتحار بلا موت، ويكون قرّر انتحار أولاده وأحلامه وهيدروجينات مائه وأوكسيجينات هوائه... ولا حاجة أبداً إلى التطفّل على حياة المنتحرين وفَسبَكةِ خصوصياتهم، هِنّي ما صدّقو كيف ارتاحو منّا، مِش ضروري نِشحد اللايك من داخل القبر.

(جوزف طوق - الجمهورية)

Script executed in 0.19537687301636