أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

القمة العربية التي قصرت عن أن تكون «عادية»: في انتظار أردوغان العربي؟

الأربعاء 31 آذار , 2010 06:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 1,962 زائر

القمة العربية التي قصرت عن أن تكون «عادية»: في انتظار أردوغان العربي؟

لقد ثبتت في أذهان الجمهور صحة المثل القائل «من ليبيا يأتي الجديد»، مع احتمال أن يكون الجديد طريفاً وظريفاً وغير مسبوق في تنافره مع السائد والمعتمد. وهكذا ظهر الهجانة على ظهور الجمال، وظهرت النساء يزغردن كما للذاهبين الى الجهاد، بينما استعرض الفرسان براعتهم الموروثة من أيام المقاومة الباسلة للغزو الإيطالي متناسين أن بين ضيوف «الأخ معمر» رئيس الحكومة الإيطالية الذي يغلب عليه النعاس فينام إن لم تكن في جواره حسناوات يتنافسن على... رجولته!

ولولا ذلك الخطاب التاريخي الذي ارتجله رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان من خارج النص الرسمي، ومن خارج المتوقع على الأرجح مستحضراً فيه القدس بقوة، لما وجدت الفضائيات عامة والصحف خاصة ما تضعه عنواناً لصفحاتها الأولى وهي تنقل وقائع هذه القمة التي غابت عنها «الأخبار»، وان حضرت اللطائف والطرائف بكثافة.

وإذا كان من الظلم اعتبار أردوغان «العربي الوحيد» أو «المسلم الوحيد» في قمة سرت التي غاب عنها بعض أبرز أركان النظام العربي، فمن الإنصاف القول إن المواطن العربي البسيط قد سمع من هذا الزعيم التركي ما كان (وما زال) يتمنى أن يسمعه في صيغة قرارات جدية وقابلة للتنفيذ من أي قمة عربية... وهذا التمني يقع في مرتبة الأحلام، وليس محتملاً أن نسمعه في المدى المنظور.

مصير اسطنبول لا يختلف عن مصير سرت وطرابلس، ودمشق والقاهرة وبغداد، ولا عن مصير القدس...
«إن تاريخنا وعقيدتنا لا يجعلاننا مجرد أصدقاء. إنهما يجعلاننا أشقاء.. لقد دونّا التاريخ الغني لهذه المنطقة، ويجب ألا نشك في أننا سنكتب المستقبل معاً»!

في أي حال، فإن أهل النظام العربي قد صفقوا لحماسة هذا «الأصولي التركي» الوافد عليهم لكي يشهد على ضعفهم وتشرذمهم، ثم انصرفوا الى شؤونهم وشجونهم، يتداولون كيف يمكنهم الرد على استفزازات نتنياهو وإهاناته المتكررة الى مجموعهم وقد تلاقوا في قمة سرت المحاطة بالشعارات الثورية الآتية من عهد مضى، بينما المقدسات في القدس الشريفة كما في الخليل وبيت لحم تتهاوى أمام زحف المستوطنات التي عجز عن وقفها صديقهم الكبير الرئيس الأميركي الأسمر وقد راهنوا على سمرته وبعض الإسلام فيه بأكثر مما هو مقبول.

تداولوا في الأمر. ناقشوا الأوضاع طويلاً. واختلفوا فصار النقاش اتهامات بالتقصير، أو حتى بالخيانة. وتلطى عجز السلطة التي لا سلطة لها في بعض فلسطين خلف التخاذل العربي فتفجر الغضب: تفضلوا الى الميدان وستجدوننا في الطليعة!

كانت أمامهم «على الطاولة» المبادرة العربية، التي سفهها بعضهم، وراهنت عليها أكثريتهم. واحتار دليلهم، هل يعلنون سقوطها، خصوصاً وقد هدد صاحبها، ذات قمة، بأنها لن تبقى على الطاولة الى الأبد، أم يمددون صلاحيتها حتى القمة الثالثة والعشرين، لعل الغضبة الأميركية من نتنياهو تجبره على البحث، مجرد البحث، فيها، فتدب فيها الحياة وتصير مشروع حل مرتجى لأزمة النظام العربي وأهله المدانين بالتخاذل والهرب من ميدان فلسطين؟

في نهاية المطاف، استبقوها على الطاولة بأمل نقلها الى طاولة القمة الطارئة التي اتفقوا على عقدها، استثنائيا، قبل نهاية العام الحالي، لعل الزمن يوفر حلاً ما، يحفظ الكرامة وإن هو لم يحفظ الأرض!

على أن أهل السلطة وإن غفروا هذه المزايدة عليهم فإنهم لم يغفروا للقذافي أنه لم يستقبل رئيس السلطة بالمراسم التي يستقبل بها الملوك والرؤساء، واعتبروا هذا التقصير دليلاً جديداً على التخلي العربي عن القضية المقدسة.

ماذا عن «القضية» التي غيبت لبنان عن قمة معمر القذافي؟!

لقد ارتأى أهل الحل والربط أن يكتفي لبنان بمذكرة حول «قضية الإمام موسى الصدر ورفيقيه» الذين زاروا ليبيا في أواخر شهر آب 1978، بدعوة من العقيد معمر القذافي تلبية لطلب الرئيس الجزائري هواري بومدين بضرورة التدخل لدى قيادة المقاومة الفلسطينية لكي تراعي أوضاع الأهالي في جنوب لبنان، خصوصاً أن إسرائيل كانت قد اجتاحته فاحتلت أرضه حتى مصب نهر الليطاني، في مطلع ذلك العام، وباشرت إقامة شريط عسكري خاضع لاحتلالها، مستعينة ببعض الخارجين على وطنهم من عسكريين ومدنيين.

... ولقد أخذت القمة علماً بهذه المذكرة، وقبلت أن يدخل سفير من لبنان في زمرة أهل القمة، بعدما تعذر ذهاب وفد رئاسي طبيعي، كما جرت العادة في سائر القمم.

أما العراق فقد انقسمت سلطته فريقين، وللمصادفة كان رئيس كل فريق كردياً:

لقد اعتذر رئيس الجمهورية جلال طالباني عن الحضور، مفضلاً الذهاب الى قمة أخرى في طهران، بضيافة الرئيس الإيراني المقاتل ضد الهيمنة الأميركية محمود أحمدي نجاد، جنباً الى جنب مع الرئيس الأفغاني قرضاي الذي قرر الاحتلال الأميركي أن يبقيه رئيساً توكيداً لديموقراطيته، برغم افتضاح عملية التزوير في الانتخابات بصناديق محمولة على البغال والحمير والحوامات قاتلة النساء والأطفال بتهمة الإرهاب في مختلف أنحاء تلك البلاد المجوعة، ومعهما رئيسان لبعض الجمهوريات الإسلامية التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، فلما انهار سقطت سهواً من خارطة العالم... الجديد!

وهكذا جاء وفد العراق الى القمة العربية برئاسة وزير الخارجية هوشيار زيباري، وهو خال رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرازاني.

ولأن النتائج النهائية للانتخابات التي جرت بإشراف الاحتلال الأميركي معززاً بشهود زور يمثلون الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية(؟!) وبعض منظمات المجتمع المدني، والتي غالباً ما تكون واجهات لدوائر مخابرات دولية، أميركية أساسا، لم تكن قد أنتجت حكماً جديداً في العراق، بهوية محددة، فلقد ارتأى أهل النظام العربي إرجاء البت بأمر أن تكون قمتهم الثالثة والعشرون في بغداد، في انتظار أن يتمكنوا من التمييز بين الخط الأبيض والخط الأسود... وهذا ما أثار غضب وزير الخارجية هوشيار زيباري الذي كاد يتهم «العرب» بالعنصرية، وكاد يتهم القمة بولائها للإدارة الأميركية... بل لقد هدد بالانسحاب لفضح اعتراض العرب، على مستوى القمة، على الاحتلال الأميركي للعراق!

لا يملك أهل النظام العربي ما يقدمونه للعراق الجديد.

لقد قدمت له الإدارة الأميركية الاحتلال والحرب الأهلية التي أودت بحياة مئات الألوف من العراقيين، وهجرت الملايين منهم الى دول الجوار وديار الشتات.

وكذلك فقد قدمت له الإدارة الأميركية نعمة «الديموقراطية»، عبر انتخابات مشهودة ساهم في إبراز نظافتها إعلام العالم كله، وأساساً الإعلام الصادر عن دول عربية لم تعرف الانتخابات (فضلاً عن بدعة الديموقراطية) في تاريخها كله.

وصحيح أن هذه اللعبة الديموقراطية لم تحسم الصراع بين القوى السياسية المختلفة داخل العراق، والتي يتنازعها فضلاً عن النفوذ المسلح للاحتلال الأميركي، تأثير دول الجيران، وهو قوي وفعال، وإن كانت لإيران الحصة الكبرى فيه، نتيجة حكم الطغيان الذي أورث العراق الاحتلال الأميركي... فهناك سوريا، ثم السعودية، ومعها دول الخليج العربي، ومعها الأردن أيضاً، وهناك تركيا وعلاقتها الخاصة بالتركمان، وعلاقتها الملتبسة بالأكراد و«حلمهم التاريخي» بكيان خاص بهم، يعرفون أن الاعتراض عليه سيجمع كل المختلفين اليوم من الجيران: إيران والسعودية، سوريا وتركيا، فضلاً عن الكويت وسائر أقطار الخليج. وهذه الاعتراضات ستحرمه من الدعم الأميركي المكشوف، فلماذا ترضى بالجزء ما دام الكل متاحاً لها؟

برغم هذا كله، فقد تعذر على القمة قبول اقتراح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بضرورة تعزيز الحوار مع إيران، سواء بصفتها واحدة من كبريات دول الجوار العربي، أو بوصفها دولة إسلامية «شقيقة» كتركيا، أو نظراً لتأثيرها في جوارها، خصوصاً وهي تخوض معركة شرسة في مواجهة الضغوط الأميركية لتدجينها وإلحاقها بركب الخاضعين للهيمنة الأميركية (وفيها دائماً إسرائيل).

وكان الرفض الفوري لهذا الاقتراح، على لسان ممثلي مصر والسعودية في القمة لافتاً، خصوصاً أن الدولتين كانتا متحمستين لإبقاء الباب مفتوحاً أمام السلطة الفلسطينية للعودة الى المفاوضات غير المباشرة(؟) مع الاحتلال الإسرائيلي، تحت الرعاية الأميركية التي ثبت عجزها، بدليل التحدي العلني الذي أطلقه نتنياهو في وجه الرئيس الأميركي الأسمر.

المفاوضات العبثية، سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة، كما دلت تجارب السنوات الماضية، مع العدو الإسرائيلي، «حلال»، والحوار مع دولة كبرى جارة وإسلامية، وتجتهد لان تبدو صديقة، «حرام»؟!

أين الحكمة؟ وأين العقل السياسي؟ وكيف نخسر من يعرض علينا صداقته، برغم بعض الاختلافات التي يمكن أن تسقط بحوار المصالح لا العواطف، ثم نذهب الى محاورة من يغصب كل يوم المزيد من أرضنا في فلسطين، ويقتل كل يوم المزيد من أبنائها العزل، ويسجن أكثر من أحد عشر ألف أسير من أبنائها، بينهم نساء وأطفال، ثم يرفض التفـــــــاوض، ولو تحت الرعاية الأميركية، ويمضي في التهام الأرض الفلسطينية، وفي اجتياح المقدسات، بدءاً بالحرم القدسي الشريف، مروراً بالحرم الإبراهيمي في الخليل، وصولاً الى مسجد بلال في بيت لحم... وها هو يزيل أحياء عربية ـ إسلامية كاملة من القدس ليبني فوق أنقاضها مزيداً من المستوطنات التي تطمس نهائياً تاريخ القدس وعروبتها وإسلامها جميعاً؟!

كان الأمل أن يكون لانعقاد القمة العربية الثانية والعشرين في ضيافة معمر القذافي في ليبيا تأثير مختلف، بفضل «الخطاب الثوري» لهذا العقيد الجالس على رأس السلطة في بلاده منذ أكثر من أربعين عاما، برغم أنه ليس له أي منصب رسمي...

ذلك أن ليبيا تملك ثروات غير محدودة، داخل أرضها، كما في خزائن مصارفها، فضلاً عن استثماراتها الهائلة في أربع رياح الدنيا، والتي أعطتها وتعطيها نفوذاً مكن «قائدها» من أن يذل فيخضع دول أوروبا مجتمعة... بل لقد مكنه من أن يجبر إيطاليا على الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها خلال احتلالها ليبيا، وأخطرها إعدام المجاهدين وشيخهم الشهيد عمر المختار، بل التعويض عما أصاب ليبيا والليبيين من أضرار، خصوصاً وهي قد أجبرتهم على ترك المدن (طرابلس وبنغازي) ودفعتهم الى الصحراء.

ثم ان ليبيا بموقعها الممتاز، لها جوارها مع مصر ومع السودان، ثم مع تونس والجزائر، ولها نفوذها في المغرب وفي موريتانيا، فضلاً عن علاقاتها الوثيقة عبر الاستثمارات المشتركة مع أقطار الخليج العربي، وصداقتها مع إيران، وتخلصها من صفحة الخلافات مع الإدارة الأميركية وشعار «طز طز في أمريكا»، ... كل ذلك كان يؤمل أن تخرج القمة العربية التي انعقدت فيها بقرارات أكثر جدية وأقرب الى الأهداف المرجوة من النتيجة الهزيلة والمخيبة للآمال التي صدرت عنها.

لطالما رفعت ليبيا القذافي شعار فلسطين، خصوصاً أن كلمة السر في «ثورة الفاتح» التي قادها ذلك الملازم الشاب مع حفنة من رفاقه الضباط الصغار برتبهم، كانت «القدس»... ثم انه بعدما استتب له الأمر، وافترض نفسه خليفة للقائد جمال عبد الناصر قد أغدق المساعدات العسكرية والمادية على الثورة الفلسطينية قبل أن تتحول الى سلطة لا سلطة لها على حساب فلسطين ـ الأرض والقضية.

لكن موجبات «المضيف» قد غلبت، على ما يبدو، واجبات صاحب القضية، و«الأمين على القومية العربية» التي لم يعد أثر في الخطاب الرسمي العربي، وحتى «الثوري» منه.

وهكذا ضاعت فرصة أخرى للفرز بين المواقف، بإدانة المنحرف والمتواطئ والمستسلم، وتزكية المؤتمن الحريص على القضية... وظهر الجميع في الصورة مبتسمين وقد أسقطوا خلافاتهم في البحر من حول سرت التي تكاد تكون بوابة للصحراء وحبة العقد في الشاطئ العربي الطويل جداً والممتد ما بين تركيا والمغرب حيث خاف رجال الفتح العربي من «بحر الظلمات»، كما أسموا المحيط الأطلسي، فامتنعوا عن ركوبه الى العالم الجديد، أميركا، تاركين هذا الشرف لبعض من كانوا تحت ظل أعلامهم في الأندلس.. أو هكذا افترض الأديب الليبي الكبير الراحل الصادق النيهوم.

ليس القصد تشبيه فلسطين بالأندلس.

لكن القمم العربية كفيلة بتحقيق مثل هذا الإنجاز... وأكثر!

فلنأمل ألا ندفع أثماناً إضافية من أوطاننا لعجز أهل النظام العربي عن حمايتها، خصوصاً عندما يواجهون «الخيار الصعب» بين سلطاتهم والأوطان.

والى القمة الجديدة التي ستكون استثنائية بينما أهل النظام العربي من أركانها فقدوا استثنائيتهم في القدرة على الإنجاز، وان كان ما زال بإمكانهم أن يتسببوا في نكبات إضافية في العديد من الأقطار العربية المهددة بالتمزق، من اليمن الى موريتانيا، مروراً بالعراق تحت الاحتلال الأميركي.

في انتظار أردوغان عربي أو أكثر؟! 

Script executed in 0.19535899162292