أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

بيـروت ليسـت لأبنائهـا.. الجميـزة نموذجـاً

الخميس 08 نيسان , 2010 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 10,278 زائر

بيـروت ليسـت لأبنائهـا.. الجميـزة نموذجـاً

كانت السهرة في الجميزة، غير مقيدة بلائحة الطعام، وأنواع الكحول، ومسيرة السيارات الفخمة، والبضائع «الشبابية» البراقة. كانت السهرة، «كلام الناس» الحقيقي. أقدم الزميل مرسيل غانم على مجازفة المواجهة الخطرة، بين أصحاب حقوق، يمثلون أنفسهم بالتمام والكمال، وبين أصحاب الملايين. قدم كل فريق قضيته، بما يكفي من الوضوح والألم من جهة، وبما يكفي من السفور والفجور من جهة أخرى. وقد توسط الفريقين، اثنان من طاقم السلطة.

طرح المشكلة على الطريقة الاثينية تقريباً، يعيد القضايا الى نصابها السياسي الحقيقي، فهنا، على الرصيفين المتقابلين، لا مكان لمن يتكلم «عن الناس» و«باسم الناس» وممثلا «الناس»... الناس في الجميزة، كانوا يدافعون عن قضيتهم وحقهم عراة من أي دعم طائفي أو حزبي أو نيابي... كانوا هناك، بنصاعة كلامهم، «كلام الناس» الحقيقي.

وحدهما، الوزيران زياد بارود (الداخلية) وفادي عبود (السياحة)، كانا يتنافسان في عدم تحمل المسؤولية.. قد يكونان محقين، في فقه السياسة اللبنانية، لكن لم يكونا من طراز السياسة التي تذهب الى التضحية بشيء ما، للدفاع عن حق واضح، صارخ، بيِّن، ولا لبس فيه.

نقول لمرسيل غانم: هذه باكورة العقل الديموقراطي، إعادة «كلام الناس» الى أصحابه، فشكراً.

IIـ من حقنا أن ننام.. لا غير

عودة الى وقائع المشهد..

عندما أنهى مرسيل غانم حلقته يوم الخميس الفائت، وأقفل باب التعبير عن الآلام الغاضبة، كان المشاهدون يسمعون أصداء الكلام، وعمق القلق المقيم، عند أهل الجميزة: «نحن على وشك البقاء، أو، نحن على وشك الرحيل».

المشهد امتلأ حتى الجمام.. أصحاب الحقوق حضروا بكامل عدتهم المأساوية. حضروا بوجوههم الغائرة بالسهر والأرق. حضروا بنزق منضبط (كيف لم يستعملوا قبضاتهم!)... قالوا بصوت صارم: من حقنا أن ننام، من حقنا أن نتوسد الأسرّة في أماكن هادئة وحميمة، من حقنا أن نتمتع بالصمت. أن نحلم بصوت مكتوم، أن نتمشى في شارعنا.

من حقنا أن نسهر على الشرفة. من حقنا ألا نعاقر المهدئات وألا نزور العيادات النفسية. من حقنا أن نمارس الجنون، بعدما بلغ جنون الفجور ما بعد ذروته. من حقنا أن نتحايل حناناً، بعدما صارت بيوتنا تعيش على مقياس ريختر، يوميا، من المساء الى كل مساء... من حقنا أن نلعن الليالي ونشتم ما هب ودب من بليغ الشتم.

ربما كانوا سيقولون أكثر من ذلك أيضا.. بعضهم آثر البكاء، وبعضهم آثر التسلح بالمواد القانونية، القاضية بعدم جواز فتح الملاهي والبارات والحانات، في الأماكن السكنية... ونادراً ما وجدنا أحداً يقول بالحكمة الحكومية المكررة مراراً في الحلقة: «لا بد من حل.. لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم».

لقد قال أهل الجميزة بوضوح ممتلئ بالعبارات الحاسمة: «الجميزة وطننا الصغير.. فساعدونا على صد عدوان ميليشيات المال واللذة، واطردوا معنا، شياطين الضوضاء والفوضى الأنيقة».

IIIـ ميليشيات الغزو والرشوة والإهانات

أصحاب الحق في حياة طبيعية، وفق توقيت متوارث: استيقاظ في الصباح، قهوة على عجل، سلامات لائقة، توجه الى العمل برصانة ودأب، جهد مبذول بكفاءة. تعب يداوى براحة القيلولة، التئام العائلة على عصرونية، حديث عن السياسة، كلام في هموم التربية ومصائر الأولاد، إقامة أمام الشاشة لاستعراض ما، صلوات صغيرة، مسبحة الوزراء والسلام عليك يا مريم، ونوم لا يعكر صفوة.. الى يوم آخر».

في المقابل، كان أصحاب المال والثروة، أصحاب المال وما فوق المال من نفوذ وسطوة وحضور ومرجعيات خفية عالية المقام مرتهنة لمكافآت البرطيل والرشوة.. كان هؤلاء يمثلون مصالحهم المستجدة في استثمار أموالهم في ورشة سياحية.

وبدأ الروح السياحي.. «إياكم أن تدقوا بالسياحة».. «السياحة نفط لبنان» (كأن النفط نعمة وليس لعنة، اسألوا الفقراء في بلاد النفط المؤيد دينياً بفتوى التملك الأبدي لأصحاب العائلات وشركائهم في عصابات النفط الدولية!).

وقد أضاف هؤلاء الى أعذارهم الباردة، حجماً من التحليلات النيوليبرالية، مستندين الى فضائل الرأسمالية، وقيم السوق، ودورة العمل، وتشغيل أبناء «الجميزة» (التشغيل هو منّة الرأسمالي) وعطاءات الاستثمار، التي جعلت أقلام الوزراء توقع بليونة بالغة، على مئات رخص الاستثمار، بحيل فائقة «الذكاء»: «رخصة مطعم» تتحول قبل طبع لائحة الطعام، الى حانة وملهى ومرقص و«موسيقى» مختصة بإيقاع الأقدام، ومثيرة للغرائز الهمجية، التي لم يعرف الرومان مثيلاً لها، في عز إباحيتهم، في زمن كاليغولا.. إله الحرية المنتحر.

كان هؤلاء يشبهون البشر بطريقة ما: ابتسامات ملتحقة بما يشبه الشفاه. وجوه منشاة بفضائل الحديث المتصل كربطات عنق، أو المسطح كرأس مشفوط الشعر.. حضر «تجار الملذات» بأناقة ظاهرة، لم تظهر عليهم علامات الأزمة، إنهم مطمئنون أن ما بين أيديهم من أموال، مقنع جداً. ويقنع من هم فوق.

لم يحضر هؤلاء عراة (من قواهم)، كأهل الجميزة. حضرت منهم ميليشياتهم الشرعية، المؤلفة من فرق مدربة على «البهورة» و«الاستفزاز» و«أمرك سيدي» (للثري القادم للسهر) و«شيل سيارتك ولاه» (لأصحاب الحق في النوم والركون).. حضر هؤلاء باسم حركي «فاليه باركينغ» تأمر وتنهى وتعاقب وتهين وتشفط وتطالب الأهالي بإخلاء الطريق «للخواجة والمدام»، ولصحبهم من الذكور والإناث الذين يؤمون المراقص والحانات أحياناً، من «دون هدوم» كما يقول المصريون عن الذين يلبسون عريهم، إذ استقالت ثيابهم عنهم، وأقامت في خزانات أغنى من «البوتيكات».

IVـ تنظيم الخراب وحراسة الميليشيا

من المسؤول عن هذا الخراب؟ من أعطى التراخيص؟ من خطط ونفذ وغض النظر؟ من انتهك حرمة القانون المالي لحقوق الناس؟ من قبض ثمن التوقيع؟ (طبعا.. أكثر من واحد).

غريب.. لا أحد ابتكر صحة مقنعة لتبرير هذا الغزو.

غريب أن الوزير بارود والوزير فادي عبود قدما مشاريع واقتراحات لتنظيم ما بعد الخراب: ترحيل السيارات، إقفال الشارع، تخصيصه للمشاة و... اعترض أصحاب «الغزو الثقافي السياحي»، لأن أتباع مذهب اللذة، لا يرغبون بأن تتنسّك سياراتهم في مرأب شارل حلو. فسياراتهم أولى بالتجول والإغراء وإبراز الحماسة، فهي، أي السيارات، ذائعة الشهرة، ذات دفع رباعي وخماسي ربما. من حظائر شركات ممتازة، بعضها من عائلة «بورش» وبعضها من سبط «مازيراتي» الخ. ولا يجوز على الإطلاق فرض الزريبة عليها.

 فهي حرة وتزعل.. ويزعل أصحابها ولا يعودون الى الجميزة، ويفضلون ارتياد أمكنة أكثر ترحيباً بالضيوف.
وهنا، اقترح وزير نقل ركاب السيارات الفخمة بسيارات أفخم منها. عرض مغر. عرض استثنائي، يقضي بنقل البضاعة البشرية الممتازة، بواسطة «الليموزين».

شكراً.. كرم حكومي وبلدي لا مثيل له. تبرع سخي لنقل المرفهين التافهين الى مراتع الجميزة. فيما مدارس عكار تنش ماءً، وطرق البقاع قد تم تجريدها من الإسفلت، وفيما وفيما... لبنان برمته، غارق في الديون.

أمس. كأن الأهالي قد اختصروا بالشارع والملاهي. كأن هناك إعاقة بشرية تقف في وجه الاستثمار. كأن على الأهالي القبول، بإفناء الغنم، ليعيش الذئب.

قال أهل الجميزة لنا، نحن المشاهدين والمتفرجين على المآسي: «نحن لم نعد على وشك البقاء.. صرنا على وشك الرحيل.. نحن أين المفر؟».

إنه التهجير، بطريقة أخرى.

بيروت لم تعد لسكانها. لم تعد لأهلها، إن أهلها مهددون بالترحيل والترانسفير الناعم.

البرابرة المتمدنون قادمون بأموالهم الطائلة.. فاجمعوا أمتعتكم وارحلوا عنها. بيروت ليست للبيروتيين، سنّة ودروزاً ومسيحيين... لقد تم القبض عليها.. واللهم نجنا من الأعظم.

Vـ قبر أمي في كندا.. ومقابر ساحة البرج!

أخذني مشهد الجميزة الى قبر أمي في كندا.. ما كنت قد ساءلت نفسي من قبل، لماذا ماتت هناك؟ من نقلها عنوة من قريتها مشغرة، أحد أقمار البقاع الغربي، الى صقيع كندا.

اقتربت مشغرة في ذاكرتي من الجميزة، ثم حضرت ساحة البرج أو ساحة الشهداء. هنا، كان يلتقي اللبنانيون من مناطق لبنان كافة. هنا كانت تقف بوسطات طرابلس (الأحدب) وصيدا (الصاوي زنتوت) وهناك حافلات بعلبك والبقاع، وهناك سيارة الأجرة الى صوفر وبحمدون وعاليه وبرمانا والضبيه وجونيه.. تذكرت الأسواق الرافدة للساحة بالبضائع، كانت الأسواق تلك محجة اللبنانيين لشراء حاجاتهم بأسعار غير مدروسة، ولكنها قابلة للتشاطر. تلعب فيها المساومة ردحاً من القيل والقال حتى تتم الصفقة.

هناك، كان لبنان كله، بلا استثناء.

ساحة النجمة، برلمان النواب وملتقى السياسيين فقط.. ساحة البرج، برلمان الناس حيث «كلام الناس» وأسواق الناس: سوق الطويلة، سوق الفرنج، سوق النجارين، سوق السمك، سوق الفحم، سوق الخضار، سوق الأونية، سوق الحدادين، سوق البالة، وصولا الى سوق المتنبي الملقب بسوق «الأوادم». (من زمان يلقب الزعران في لبنان بالأوادم).

عندما اعتلى التعصب الطائفي قامة السياسة، انفجرت الوحوش اللبنانية، وافتعلت حرباً دمرت خلالها ساحة البرج. أي وسط لبنان. كانت هذه الساحة أولى ضحايا التعصب الطائفي.. ألغي مكان التقاء اللبنانيين. وحتى الآن، ليس في لبنان، ساحة تجمع اللبنانيين. هناك أمكنة لفرز السكان.

دمرت الحرب الطائفية الحجر، وهجّرت البشر في ساحة البرج. غير أن حقوق الملاكين ظلت متمسكة بأطلال الخراب... وعندما حضر السلام المتوحش، شاهراً شيكات «سوليدير» ومخططها الإلغائي للحقوق، تحت تصفية الحقوق، بأبخس الأموال.. يومها. نام أصحاب الحقوق، من غير الرأسماليين وأصحاب الأملاك المذهبية، نوم الجلجلة الحديد.

الحرب دمرت الحجر في بيروت.. السلام أباد الحقوق.

الوحش الطائفي أبعد أمي وأبي والعائلة الى كندا، كما أبعد أمهات وعائلات كثيرات. ولما جاء وحش السلام بأمواله المتعددة المنابع والمشارب والمضارب، أزال ما خلّفته الحرب، ومن خلّفتهم أيضا.

VIـ كيف لا يخرج شاهراً سيفه؟

من ينتصر في «معركة» الجميزة؟ ومن سينتصر غداً في موقعة شارع الحمراء، المرشح أن يتحول الى «جميزة ثانية»؟ لم يخرج أصحاب الحق في النوم الطبيعي مطمئنين الى أن فراشهم لن يكون شائكا.. يجتاحهم القلق. يقفون على عتبة الرفض والخوف من الخسارة.

قد يستفيد أهل الجميزة من دروس «الإبادة السابقة». لديهم الكثير من الوسائل لاستعادة حقوقهم، القاضية بجلاء «ميليشيات اللذة» من الشارع. ولتذهب مع السلطة السياسية الخاضعة لها، للبحث عن مكان إقامة للمتعة.
يستطيع أهل الجميزة استعادة حارتهم وشارعهم، إذا كان مطلبهم: «موت الذئب»، ومعاقبة من شرعن ورخص وتعاطى وقبض من الذئب، ثمن الضحية.

يستطيعون استعادة نومهم وأحلامهم وأحاديثهم، إذا أنشأوا تجمعاً متراصاً، شعاره «إزالة آثار العدوان بالكامل» من دون اللجوء الى وساطات.. إزالة بالقوة إذا اقتضى الأمر.. كل قوة شرعية إذا تحدت الظلم ووقفت في وجه التوحش المشرعن.

يستطيعون إذا خططوا لتقديم دعاوى بالجملة والمفرق، وإذا أقلقوا راحة نوابهم ومرشحيهم ووزراء لادولتهم.
أما إذا تركوا أمورهم لأهل النظام، وكلام الوزراء المعسول، ومهندسي الخراب ومنظمي التهجير الجماعي «على السكت» فليس أمامهم إلا الرحيل.

«لا تقتربوا من حقائبكم.. لا تراودنّ أفكاركم أوهام الإقناع بالوسائل المتبعة.. لا رجاء من أحد.. لا رجاء إلا بقوة الحق وقوة من يقف خلفكم لا أمامكم من أهل السياسة على اختلاف ألوانهم.

يلزم استبدال الكلمات باللكمات.

لمَ لا؟؟
إذا لم يتسنّ لأهل الجميزة فضيلة الصبر والانتصار، فليراجعوا عمليات التهجير، في عصر التوحش العنصري والطائفي والاستثماري والرأسمالي.

لقد سجل سبستياو سالغادو عمليات التهجير بعدسته. تهجير بواسطة العنف في أكثر الأحيان، وتهجير بواسطة الغزو المالي، في أحيان كثيرة.

قال بوانكاريه قولاً شهيراً: «الويل للضعفاء». إلا أننا غيّرنا القول، بالمقاومة. فلماذا لا تبدأ المقاومة المدنية؟
إن الجميزة تستحق أن يقاوم من أجلها، الى جانب أهلها، من يدّعي أنه يعمل في منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني و...

أخيراً: الى فاديا كيوان، شكر لريادتها، انما، لماذا الوقوف أمام رغبة أهل الجميزة في التعبير عن غضبهم بالوسائل السلبية؟

«عجبت لمن بات جائعا كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»؟. 

Script executed in 0.21343588829041