أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

لمـاذا ترضـى أميركـا بالـذل؟

الجمعة 09 نيسان , 2010 12:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,488 زائر

لمـاذا ترضـى أميركـا بالـذل؟

وهذا معناه أن الإهانة التي وجهتها اسرائيل الى حليفتها الرئيسية الولايات المتحدة ـ واختارت لذلك وقت زيارة الرجل الذي قال إنه صهيوني وإن لم يكن يهودياً على سبيل التأكيد بأنه يشترك في العقيدة السياسية والأيديولوجية مع حكام اسرائيل ـ ستبقى بحاجة الى تفسير.

ولقد ذكرت التفسيرات بشأن عجز الإدارة الاميركية عن وقف بجاحة اسرائيل عند حدها..ابتداءً من ولاء الكونغرس الاميركي بمجلسيه وبحزبيه لإسرائيل والتزامه بما يدعو الــيه اللوبي ـ الصـهيوني في اميركا مهما كان ضــد المصــالح الاميركية، بما في ذلك المصــالح الاجنبية والاستراتيجية، وصولاً الى وحدة الشعور الديموقراطي بين الولايات المتحدة وإسرائيل التي تتجاوز وحدة الشــعور نفــسه بين اميركا وأوروبا... وحتى القول بأن بين الامــيركيين والاسرائيلــيين نوعاً من التماهي في التركيبة المجتمعية. مجتمعان كلاهما بني على المستوطنات وعلى إبادة «السكان الأصليين» لمصلحة تاريخ يرجع الى اكثر من ثلاثة آلاف سنة في حالة إسرائيل، والى اكثر من خمسمئة عام في حالة اميركا.

...مع ذلك تبقى هناك حاجة حقيقية الى تفسير رضوخ اميركا وقبولها للإهانة التي وجهتها اليها إسرائيل.
ذلك أن تلقى إهانة هو خطوة اولى/..أما قبولها او ابتلاعها او السكوت عنها فشيء آخر تماماً يتجاوز هذه الصعوبة بكثير.

وتقبّل اميركا للإهانة شيء يتعلق بأميركا لا بإسرائيل...مهما كانت درجة ثقة إسرائيل بأنها عندما تهين اميركا او تلحق بها مذلة فإن هذه ستتقبلها وترضخ لها.

لا بد ان في سيكولوجية اميركا او نفسيتها شيئاً يجعلها قابلة لأن تُهان وأن تتقبل الإهانة في ذلة. اي انه لا بد ان الشعور بالإهانة او المذلة يرضي شيئاً لدى اميركا او يشبع حاجة ما.

ومن المفروغ منه انه اذا كان فرد ما يتقبل الإهانة ويستوعبها لأنها تشبع حاجة نفسية فيه، فمعنى هذا انه مريض..انه من هذه الناحية يعاني من شذوذ ما. فهل يمكننا ان نقول إن مجتمعاً بأكمله ـ هو في هذه الحالة المجتمع الاميركي ـ يمكن أن يكون مريضاً بالمثل، يعاني من شذوذ نفسي يجعله يجد «متعة» او «لذة» في شعور الإهانة او المذلة؟

الإجابة على هذا السؤال هي بنعم واضحة وقاطعة ومبررة لدى علماء النفس...وبصفة خاصة لدى رواد التحليل النفسي على اختلاف اتجاهاتهم. ولست هنا بصدد كتابة مقال في علم النفس يفسر رضوخ الأميركيين للإهانة التي ألحقتها بهم اسرائيل، ولكنني اشعر بأنني مطالب بأن أوضح هذا الأمر.

وأذكر أن المفكر الكبير كارل غوستان يونغ ـ الذي كان تلميذاً لسيغموند فرويد في سنوات البداية لنشأة مدرسة التحليل النفسي، ثم انشق عليه بسبب عدد من الخلافات والاختلافات، وصف اميركا ـ في بحث له نشره عام 1930ـ بأنها «على الأرجح اكثر النفسيات تعقيداً بين كل الامم».

وهو في هذا البحث يعرب عن اعتقاده بأن الأميركي الأبيض ـ اي الأميركي من اصل أوروبي ـ لم يعد أوروبياً على الحقيقة كرجل ـ مثله هو ـ من وسط اوروبا. انما اصبح الاميركي الابيض اقل اوروبية ويحمل عدداً من سمات الهنود الحمر ـ سكان اميركا الأصليين ـ ومن سمات السود، الذين كانوا حتى كتابة هذا البحث يعيشون حياة مواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة. معظمهم من الخدم وأصحاب المهن المتدنية والقاسية.

أياً كانت وجهة نظر يونغ في الاميركي من الناحية النفسية فإن القبول بالمذلة والمهانة والوصول فيها الى حالة من الإشباع لرغبة غير سوية يقودنا ـ مع التحليل النفسي ـ الى مفهوم «الماسوكية»... ذلك المفهوم الذي يكشف عن جاذبية غريبة للألم..حيث يرتبط فيه الإشباع بالألم او الإذلال الذي يعانيه الفرد. وقد وصفت ـ أيضاً ـ بأنها «حالة من الاعتلال النفسي تتميز بالسعي الى الألم... ويرتبط الألم بزيادة التوتر النفسي ويتناسب معه».

ولعل أحد أهم السمات التي توصف بها هذه السمة تتضح فيما يقوله فرويد من «أن التصرف الماسوكي لدى الأفراد العصابيين ينبغي ان يعزى الى عاطفة لا شعورية ناجمة عن الشعور بالإثم...وفي حالة الانحراف يكون القلق هو الغالب.فالألم والإخفاق والإذلال مصادر مباشرة للإشباع». ويتحدث فرويد في هذا السياق عما يسميه «أفعال العدوان على الذات»، وهي تصرفات يجرح الأفراد خلالها أنفسهم، يحرقون أنفسهم، ويسببون لأنفسهم الألم... تصرفات شبيهة على وجه التقريب بما يمكن ان يشكل جزءاً من حالة قلق مرضي، وتسبب هدوء هذا القلق بفعل آلية من زوال إضفاء الشعور بالإثم.

كذلك يتحدث فرويد في هذا السياق نفسه عن تصرفات الإخفاق، سواء كان الأمر ذا علاقة بالبحث عن الإخفاق والخضوع او الإذلال... حينما يتخيل الشخص الماسوكي انه يُكمَم ويُقيَد ويُضرَب ضرباً مبرحاً ويُجلَد بالسوط وتُساء معاملته على نحو أو آخر ويُدنَس ويُذَل.

بطبيعة الحال فإننا حين نعزو هذه الانحرافات الى اميركا، سريعاً ما نجد انفسنا نرد عليها بأن أميركا أقرب لأن تكون شخصية «سادية» تتمتع بإلحاق الألم والأذى والإذلال بالغير . هذا هو المعنى المباشر الذي يمكن الخروج به من تاريخ الاتحاد الاميركي، باعتباره تاريخ حروب خارجية، وصلت به الى الشرق الاقصى على بعد آلاف الأميال من شواطئه، والى الشرق الأوسط فضلا عن اميركا اللاتينية. حيث في معظم هذه الحالات استخدمت ابشع آلات الحرب في قتل وتعذيب ضحاياها بالآلاف بل بالملايين.

لكن هذه الرؤية تنطوي على تبسيط شديد للأمور. من ناحية لأن الخروج الى العالم بنظر الشخص «السادي» الذي يشبع رغباته بإيلام الآخرين وإذلالهم هو ضرب من الحيلة لإخفاء انحراف «الماسوكي».

ومن ناحية اخرى فإن تاريخ حروب اميركا الحديثة ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ هو تاريخ هزائم. فقد كانت هزائم اميركا في كوريا وفي فيتنام، وبعد ذلك على نطاق أضيق في كوبا والآن في أفغانستان، تاكيداً لرغبة اميركا في الاستمرار في الوقوع في الهزائم كنوع من اجترار الآلام والشعور بالإذلال. ولعل اوضح الأمثلة على ذلك في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين حربها ضد فيتنام. لقد واصلت اميركا الحرب واستخدمت اقصى وأقسى آلاتها لسنوات وسنوات من دون ان تلوح لها في الأفق مؤشرات انتصار ممكن على الفيتناميين. لهذا لا يكاد يوجد تفسير لهذا الاستمرار في حرب لا تنتهي معاركها إلا بهزائم حقيقية جزئية وكلّية، إلا كونه ميلاً لقبول مهانة الهزيمة وذلها.

وعندما لاحت الفرصة للتوقيع على اتفاق ينهي هذه الحرب التي استمرت 13 عاماً كان اتفاقاً يفضح هزيمة اميركا ويكشف خروجها من فيتنام بطريقة ليس فيها اوضح من إذلالها وهي القوة الأعظم بين قوتين في ذلك الوقت.

وكأن الولايات المتحدة دبرت هروبها من فيتنام ـ بعد عامين من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في باريس ـ بحيث تكشف للعالم عن هزيمتها المذلة في صورة افراد طاقم سفارتها في سايغون يهربون بتسلق طائرات الهيليكوبتر من فوق اسطح السفارة كما تفعل مجموعة من المجرمين ضبطت فجأة متلبسة بالجرم المشهود.

هكذا تكون اميركا قد ضمنت لنفسها متعة الإهانة والإذلال في اقصاه. ولا تختلف هذه الصورة لما حدث لمجرد ان الولايات المتحدة ظلت لسنوات طويلة تنكر انها خرجت مهزومة من فيتنام.

كثيرة إذن هي الدلائل على ان اميركا مصابة بهذا الانحراف «الماسوكي» بوجهيه: الوجه الذي يحقق لها الإشباع عن طريق الأساليب السادية العنيفة في الحرب ـ خاصة وقد أصبح واضحاً انها تختار «اهدافاً ضعيفة» ولا تستطيع مع ذلك ان تحقق انتصاراً حاسماً، كما هي الحال في أفغانستان في الوقت الحاضر، والوجه الثاني الذي يحقق لها الإشباع عن طريق قبول مذلة الهزيمة في الحرب او في الصراع السياسي.

ولعل تبدل الأدوار بين اميركا وإسرائيل في السنوات الاخيرة يلقي مزيداً من الضوء على هذه الاعراض النفسية البالغة التعقيد، على حد وصف يونغ قبل ثمانين عاماً.

لقد ساهمت الولايات المتحدة بدور بارز في تأسيس اسرائيل، وزادت احتضاناً لها بعد تراجع دور بريطانيا وفرنسا في الشرق الاوسط. في سنوات البداية كانت إسرائيل قاعدة استراتيجية متقدمة للكتلة الغربية في هذه المنطقة. قصد بها ان تقف بوجه الخطر السوفياتي. قصد بها ان تكون القلعة المدافعة عن المصالح الغربية في منطقة النفط والموقع الاستراتيجي البالغ الأهمية. غير ان الظروف لم تلبث ان تغيرت ـ خاصة بعد تفكك المنظومة السوفياتية السياسية والاستراتيجية ـ ولم تعد إسرائيل تخوض حروب الغرب نيابة عن القوات الاميركية. اصبحت الولايات المتحدة تخوض حروبها في الشرق الاوسط بنفسها كما حدث في العراق منذ عام 2003، وكما يحدث في أفغانستان منذ عام 2001 . اصبحت الولايات المتحدة تدفع ثمن حروبها بتكاليف الدم الاميركي وتكاليف المليارات المضاعفة من الدولارات الاميركية.

بل إن إسرائيل اصبحت تحفز الولايات المتحدة وتحضها يومياً على ان تشن بنفسها الحرب ضد «الخطر الإيراني»، بعد ان كان هذا الدور منوطاً بإسرائيل...وإسرائيل وحدها. اصبحت الولايات المتحدة مطالبة بأن تفتح جبهة قتالية واسعة ضد إيران بينما هي لا تزال تحارب في جبهات أفغانستان وباكستان وكذلك في العراق.

وحتى الآن لم يبد ان الولايات المتحدة تتخذ موقفاً معارضاً او رافضاً لهذه الدعوة الاسرائيلية على اساس ان الخطر وشيك على اسرائيل وليس على الولايات المتحدة سواء من الناحية الزمنية او من الناحية المكانية، الأمر الذي يجعل الحال يبدو وكأن اميركا مقتنعة بأن واجبها تجاه اسرائيل يحتم عليها ان تشن هجوماً على إيران يفتح جبهة جديدة في هذه المنطقة الخطرة.

نوع آخر من الشعور لدى اميركا بالذل والمهانة تجاه اسرائيل. حيث اسرائيل هي الآمر الناهي مع أن اعتمادها التام الشامل على اميركا معروف للجميع... وأولهم الاميركيون والاسرائيليون. لكنه شعور بالذل والمهانة لا يلقى نفوراً ـ على الأقل ـ من جانب اميركا... إنما يقابل ايضاً بالرضى والارتياح... وربما بالإشباع (...).

لو كانت اميركا فرداً لكان علينا ان نتصور ان هذا الفرد لا بد ان يسعى للعلاج، لا ان يستسلم لهذا التعذيب الذاتي الذي تحكمه دوافع ونوازع لا شعورية.

أما وإن اميركا ليست فرداً إنما دولة كبرى، مجتمع مركب متنوع المكونات، طبقياً الى اقصى درجات الانقسام الطبقية، قوي بآلاته الحربية وقدراته التكنولوجية، فإن من المستبعد تماماً أن يعلو على المستوى اللاشعوري على مستوى الشعور والوعي. من المستبعد ان يدرك انه بحاجة الى التخلص من هذه النوازع المرضية... الى إقامة علاقاته الداخلية والخارجية على اسس سوية وعادلة.

وحتى إن تساءلنا ـ في لحظة صدق مع النفس ـ ألا ينطبق هذا علينا نحن ابناء الأمة العربية ربما بلا استثناء؟، لا بد ان نكون مستعدين بالصدق ذاته لأن نجيب بنعم صريحة غير مشروطة.

Script executed in 0.17571401596069