أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

أهل النظام العربي يشيّعون قضية فلسطين: اغتيال الثورة بالكيان والأرض بالسلطة

الأربعاء 21 نيسان , 2010 07:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 11,046 زائر

أهل النظام العربي يشيّعون قضية فلسطين: اغتيال الثورة بالكيان والأرض بالسلطة

فبعد عشرين يوماً من إطفاء الأنوار في الخيمة الليبية للقمة العربية الثانية والعشرين، وقف بنيامين نتنياهو يفتتح الجلسة الأسبوعية للحكومة الإسرائيلية باقتباسات من أقوال لمؤسس الحركة الصهيونية وصاحب فكرة «دولة اليهود» تيودور هرتسل جاء فيها: «لا تثقوا بمساعدة الغرباء.. لا تثقوا بالكرماء، ولا تتوقعوا أن تلين الحجارة، لأن الغرباء يمنحون صدقات مهينة والحجارة لا تلين»... وكان نتنياهو يقصد، في هذه اللحظة، الإدارة الأميركية ورئيسها الأسمر الذي يحاول بكل الوسائل استرضاء إسرائيل، والذي لا تتعب وزيرة خارجيته من توجيه الإهانات اليومية الى العرب ومن إعلان رفضها مبادرتهم التي غدت يتيمة ومتروكة للنسيان.

هرتسل قال كلماته هذه في الأول من حزيران ـ يونيه ـ 1902، ونتنياهو استشهد بها عشية الاحتفال بالذكرى الثانية والستين لإنشاء إسرائيل، وبينما أهل النظام العربي يهيلون التراب على أحلام العودة الى فلسطين، أو حتى استبقاء المنظمة التي استولدوها ذات يوم من العام 1964، وعهدوا اليها بمهمة تحرير فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، وبالاعتماد دائماً على «الغرباء» الذين لم يعودوا غرباء!

ومن المفارقات الموجعة أن يُعلن وفاة القمة العربية، كإطار للتلاقي من حول استنقاذ ما يمكن استنقاذه من فلسطين، في ليبيا وبضيافة العقيد معمر القذافي الذي قام، مع مجموعة من زملائه الضباط الصغار بثورة خلعت الحكم الملكي في «الفاتح من سبتمبر ـ ايلول ـ 1969، وكانت كلمة السر فيها «القدس»... ولكنه بعدما استقر فوق قمة السلطة وحيداً لم يجد ما يمنع الاقتراح بدولة واحدة للفلسطينيين واليهود باسم ابتدعه هو: اسراطين!

على هذا، يمكن القول، براحة ضمير، إن القمة العربية الثانية والعشرين التي انعقدت في خيمة العقيد معمر القذافي «البرمائية» في مدينة سرت الليبية، قد أعدت التفاصيل الدقيقة لمراسم دفن القضية الفلسطينية، متخففة من هذا الحمل الثقيل الذي كان ـ في جانب منه ـ مبرر استيلاد القمم، وفي الجانب الآخر الامتحان الصعب لأهل النظام العربي وقدرتهم على الفعل... والنتيجة باهرة، كما تعرفون!

على هذا يمكن القول إن الزمان قد دار بالنظام العربي دورة كاملة، وها هو ينفض يديه من «المبادرة العربية» ليقف عند تخوم معاهدة الصلح المنفرد التي تجرأ السادات على إبرامها، مستخفاً بالإجماع العربي الذي كان يعرف مدى هشاشته، متحايلاً على قداسة القضية الفلسطينية باستخدام علمها، عند مدخل فندق «مينا هاوس» قرب الاهرامات، في القاهرة، لتمويه انسلاخه عنها بذريعة استنقاذ مصر وتوفير أسباب ازدهارها بالاستناد الى دعم أميركي توهمه مفتوحاً، ولم يتسنّ له أن يعيش ليشهد السقوط العظيم لهذا الوهم القاتل.

لقد تم إسقاط كلمة «فلسطين» عمداً، ليسهل بعد ذلك تفتيت «القضية» عبر تحويلها الى مجموعة من التفاصيل التي تعطى لها الأسماء الخادعة، من نوع «السلطة الوطنية» التي سرعان ما سوف تنشق الى «سلطتين» متخاصمتين الى حد الحرب!، في حين تذوي «منظمة التحرير الوطني» ومؤسساتها العجوز في متحف التاريخ، تحت إشراف الجنرال الاميركي دايتون، لضمان التحقق من أن «الثوار» و«المناضلين» قد تحولوا الى مخبرين يعملون في خدمة الاحتلال الإسرائيلي...

لقد أنهى النظام العربي «فلسطين» قضية مقدسة وشعباً ظل موحداً برغم تشتيته في أربع رياح الأرض.

في البداية، أوهم النظام العربي الفلسطينيين بأنه سيمكنهم من أن يتولوا قضيتهم بأنفسهم، عبر منظمة التحرير الفلسطينية التي استولدها في العام 1964، مضفياً عليها الكثير من مواصفات «مشروع الدولة».

وعندما ضربت الهزيمة النظام العربي في وحدته وفي مركز قوته، جاء بالثوار الى «المنظمة» فتحولوا الى موظفين: رئيساً يطالب بعزف النشيد الوطني في المطار، ووزراء وسفراء ومديري مكاتب تمثيلية يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية وبمرتبات محترمة، وجنوداً في جيش أو «جيوش» شبه نظامية تتوزع قطعاتهم العسكرية في «معازل» في بلاد عربية شتى، لكل منها نظامها الصارم والمتخوف من تأثير القضية المقدسة على استقراره.

هل من الضروري استعادة التفاصيل القاتلة للحرب الأهلية في الأردن التي سيق اليها «مقاتلو الثورة الفلسطينية» فأنهت وجودهم في الموقع الطبيعي لنضالهم من أجل العودة الى أرضهم التي في مدى نظرهم.

... أو استعادة التفاصيل القاتلة للحرب الأهلية في لبنان التي تورط فيها «مقاتلو الثورة الفلسطينية» فأنهت «الثورة» وكادت تنهي القضية حتى جاءت النهاية المأساوية في الاجتياح الإسرائيلي لبنان في صيف العام 1982، والذي أخرج منظمة التحرير ومقاتليها بحراً من بيروت الى تونس، مخلفين وراءهم مناخاً معادياً لكل ما له علاقة بفلسطين، ويأساً من «العروبة» وليس فقط من النظام العربي الذي ابتلع الهزيمة الجديدة بتضامن أطرافه من حول «مبادرة الأمير فهد» التي يمكن اعتبارها مسودة المبادرة العربية التي أطلقها شقيقه الملك عبد الله بعد عشرين عاما، في القمة العربية في بيروت... وتلبية لنصيحة أميركية؟

المهم أن التدهور في الموقف العربي سيتوالى فصولاً ليبلغ القعر مع غزو صدام حسين الكويت في 2 آب (أغسطس) 1990، والذي أعطى الفرصة للإدارة الأميركية في عهد جورج بوش الأول، ليشن حرباً جعلها «دولية» وبمشاركة رمزية من بعض الدول العربية وفرت له الغطاء وأضفت «شرعية عربية ما» على تلك الحرب التي سترسم ملامح غد الانقسام الدموي بين العرب.

كانت «الجائزة» مؤتمر مدريد للسلام الذي فتح باب التفاوض عريضاً أمام الأطراف العربية المناهضة للصلح المنفرد... وبينها منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تعط مقعداً مستقلاً، بل أشركت عبر الوفد الأردني.
وتوالت المفاجآت: من اوسلو جاءت أخبار التفاوض المباشر بين إسرائيل ومنظمة التحرير! وقد انتهى باتفاق اوسلو الذي سمح للمنظمة ان تعود بمن قبلت بهم إسرائيل من قادتها الى «الداخل»، بشرط ان يتحول مقاتلو جيش التحرير الى شرطة في ظل سيطرة إسرائيلية شاملة وتحكم مطلق بكل أسباب الحياة.

ومن عمان جاءت أخبار الصلح المنفرد الأردني مع العدو الإسرائيلي سابقاً، عبر اتفاق وادي عربة، الذي أخرج الأردن بدوره من الصراع (وقد كان بالأصل خارجه).

وواصلت سوريا ولبنان مفاوضات عبثية سرعان ما توقفت بعدما استغنت إسرائيل عن أي اتفاق مع الأطراف الثانوية بعد اتفاقها مع «أصحاب القضية» المباشرين، وارتياحها الى خروجهم مع الأردن، وبعد مصر، من ميدان الصراع.

ها هم الفلسطينيون يجسدون في واقع انقسامهم وضياعهم وعجزهم وضع النظام العربي جميعاً، الذي أسقط من شعاراته ومن سلوكه كل ما يذكره بالعروبة وموجباتها، ولو في إطار منظمة عاجزة إلا في لسانها: جامعة الدول العربية!

تساوى الجميع الآن في الخروج من العروبة وعليها، ولم يعد ثمة ما يوحدهم على موقف، وإن كان شكلياً.

وهكذا فإن الرد على القرار الإسرائيلي بطرد أكثر من حوالى سبعين ألف فلسطيني من أرضهم وديارهم، بذريعة مخالفتهم شروط الإقامة(!!) ظل في دائرة اجتماع للمندوبين الدائمين في الجامعة العربية، الذين داروا عجزهم، وربما مراراتهم، بترك الأمين العام يعلن مطالبتهم بانعقاد فوري للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لا تملك حق القرار... والأمر لله من قبل ومن بعد!

لا شأن «للعرب» بفلسطين: هذا هو موضع الإجماع المتين بين الأميركيين والإسرائيليين وأهل النظام العربي، من الآن فصاعدا.

فلسطين، في الطور الحالي من تاريخ القضية العربية الأم، والتي كانت مقدسة، هي شأن إسرائيلي بحت، بالكاد يسمح معه قادة إسرائيل للإدارة الأميركية أن تتخذ فيه موقفاً يغاير السياسة الرسمية التي يقررها الآن وحوش المستوطنين الذين باتوا في موقع القرار... أو هكذا يراد لنا أن نتصور.

والحقيقة أن ما أصاب قضية فلسطين أمس، ويصيبها اليوم، وما سوف يصيبها غداً، هو نتيجة طبيعية لإخراجها من هويتها العربية، بوصفها قضية الأمة في حاضرها وفي مستقبلها، في تحررها أو في استرهانها للنفوذ الأجنبي (أميركياً بالأساس) ثم للاحتلال (إسرائيليا ثم أميركيا، حتى لا ننسى العراق).

إن قضية فلسطين هي المرآة العاكسة لحال الأمة العربية، وحين أسقطت العروبة عن فلسطين، وحرض أهل النظام العربي الكيانيين من القيادات الفلسطينية، نفاقاً أو تملصاً بين الالتزام بجوهر القضية، قدموا لهم النماذج عبر «استقلالهم» بكياناتهم التي انفصلوا بها عن «العرب» وأقاموا بها وعبرها الجسور مع الغرب، الأميركي أساساً، وواشنطن هي أقرب نقطة بين عربيين، كما تعرفون، ثم انها قابلة لان تصير تل أبيب، لمن يرغب، أو الطريق اليها.

ويمكن القول الآن، وبلا خوف من الشطط، إن تحويل القضية المقدسة الى «كيان» بغير مقومات «الدولة» وبغير حماية «الثورة»، التي تكون عربية أو لا تكون أبداً، كان أقصر الطرق لاغتيال «فلسطين»، وذلك بتنسيب منظمة التحرير الفلسطينية الى النظام العربي.

وكالعادة، كانت البدايات مغرية، ولا تنذر بمخاطر الكمائن التي سوف تعترض الطريق: ماذا في أن يكون لرئيس منظمة التحرير حقوق الملوك والرؤساء في مراسم الاستقبال والوداع، وفي مساواته بالآخرين بروتوكولياً؟!

ومن ذكريات الأمس يمكن استعادة مشاهد السعادة والفرح التي غمرت أهل النظام العربي بتدجين ذلك الثائر الذي كان يخيفهم وهو يقاتل في «معركة الكرامة» في «غور الأردن».. وكم كانت فرحتهم غامرة حين أغووه فأتى يطالب ويزاحم على مقعد في جانب الملوك والرؤساء في القمم العربية... فعلى الرحب والسعة بالنظام الفلسطيني الجديد، ووداعاً لفلسطين التي تعود بالثورة أو لا تعود ابداً.

أما وقد طويت صفحة النضال من أجل التحرير، وصار الثوار رجال شرطة يحرسون الأمن الإسرائيلي، ويقدمون المعلومات عن رفاقهم القدامى ممن يتحدون أقدارهم ويواصلون العمل من أجل توحيد الشعب داخل وطنه المحتل وفي الشتات، فما أسهل أن يتنصل النظام العربي من فلسطين تاركاً مصيرها لقادة إسرائيل يقررون فيه ما يحفظ أمنها... وهو، بصيغة أو بأخرى، أمنهم هم أيضاً، ومن هنا فإنهم «يعادون من يعاديها، ويحالفون أو يوالون من يواليها».

لقد قرع جرس الانصراف للمناضلين الذين حاولوا تحويل حلم التحرير بالثورة الى واقع، فاجتمعت عليهم السيوف حتى يتوبوا ويصيروا مخبرين يحفظون أمن النظام العربي لمنع أي خطر عن الكيان الصهيوني.

لكن قضية بمثل هذا القداسة لن تسقط سهواً، وشعباً بمثل هذه الصلابة التي جعلته يقاتل من اجل أرضه على امتداد ثلثي القرن الماضي، وحتى اليوم، لن يخضع للاحتلال الإسرائيلي ولو مموهاً بملامح النظام العربي. 

Script executed in 0.1920599937439