أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

عن تدمر بوجهَيْها

السبت 06 حزيران , 2015 08:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,502 زائر

عن تدمر بوجهَيْها

الأكيد أن الذاكرة السورية يملأها الخوف من الاعتقال، لكنها بالمقابل، ابتعدت غريزياً عن التماهي مع السجين. إغفال ذاكرة المعتقل وتغييبها بالنسيان أو التجاهل، هو أسهل الحلول لدرء الخوف من السجون أو لنكران الحيز الذي تحتله في المخيلة الجمعية، «اوعك هَي فيها حبس» ينبّه السوريُّ السوريَّ الآخر لتجنيبه التورط في ما لا تحمد عقباه.

في الثمانينيات من القرن الماضي، قيّض لي بمحض الصدفة، الدخول إلى ورشة ترميم قلعة دمشق التي كانت سجناً قبل ان يتم تحويلها إلى المعلم الأثري الحالي. تجوّلت في الأروقة والمهاجع والزنازين الانفرادية منخفضة السقف. كان المساجين قد تركوا آثارهم على المكان الوحيد القابل للتسجيل: الجدران التي امتلأت بالعبارات والأسماء والتواريخ. هناك من كتب «يا ظالمني...» ناقشاً على الجدران بأمانة كلمات أغنية أم كلثوم التي ربما كانت تعني له مما تعني لمن هو خارج السور. وهناك مَن كتب «آه...» طويلة مكتفياً بها، وهناك من سجّل يوميات وشهادات موقعة تثبت أن فلاناً استدان من فلان.

الجدران رواية ذاتها ورواية مَن كان بداخلها. كان السجانون والمسجونون قد غادروا المكان، وبقيت الأحجار مجردة وناطقة قبل أن يتدخل المهندسون والعمال لإعادة تأهيلها وتحويلها إلى قلعة للسياحة.

أعرف الآن. أني لم أمرّ مرة من الشارع الملاصق لجدار القلعة من دون أن يخطر لي ما كان بداخلها. الحجر والبشر تلازما منذ البدء في عملية الذاكرة وليس بالإمكان فصلهما. ما البشر من دون الحجر؟ تتساءل الصديقة ميري، ثم تضيف: ما البشر من دون ثقافتهم، من دون أحجارهم... وتجيب: وحوش، لا حيوانات، فللحيوانات نبالتها، أما الوحوش فلا. كيف نتوقف عند تدمير سجن تدمر في الوقت الذي يطال فيه الدمار عالماً عربياً بكامله؟ حلب وحمص والعراق وغزة واليمن؟ كيف وقد طالنا الموت والتشرّد في كل مكان؟

ربما لأن الذاكرة لا تعوَّض في تاريخ الإنسان، وربما لأن إنهاء بؤس السجن يمر عبر مواجهته بكل عريه حتى لا يتكرر، فليست الذاكرة آثاراً تدعو للفخر فقط، هي أيضاً آلام وعذابات وسجون، ولا مفر من رؤيتها كما هي.

وقد يكون أخطر ما في «داعش» هو تلك الاستهانة التي يبديها حيال البشر والحجر في آن. لا فرق لديه بين آثار نمرود وأضرحة أولياء وكنائس وجوامع... وسجون! لا فرق طالما علينا أن نقصّ بمنجل كل ما قبل وما بعد حقبة السلف الصالح. وهكذا، نفقد البشر والحــجر والذاكرة ويصبح البؤس تفصيلاً لا قيمة له.

أثناء تجوالي في مدينة لوكا الايطالية. وقعت صدفة على متحف يُدعى «متحف التعذيب»، تصدّرت واجهته مقصلة ويدخله سيّاح يرتدون الشورتات القصيرة ويحملون كاميرات تصوير. ترددت قليلاً، ثم اقتربت من الباب. كانت معي عائلتي، ولم أشعر بأي رغبة في الدخول. تهيأ لي أني أحمل في داخلي ما يكفي من الصور وأن الزيارة جهد لا ضرورة له. أعرف الآن أنني أخطأت وان الزيارة كانت واجبة، أقله احتراماً لتلك الذاكرة التي يشترك بها البشر جميعاً. فهناك شعوب تجاوزت بؤسها، وربما نكون، برغم اليأس، على هذا الطريق المعبَّد بالشوك. ليس هناك من حل إلا أن نكون، كما نحن، جزءاً من هذه الإنسانية، نقدّم لها أول لغة مكتوبة، وآثار تدمر و... سجنها.

شريف الرفاعي 

السفير بتاريخ 2015-06-06 على الصفحة رقم 15 – قضايا وآراء

Script executed in 0.16581606864929