كتبت جنى الدهيبي في صحيفة "المدن" تحت عنوان "نكبة أسواق طرابلس تهددها بانهيار شامل": "من يصل إلى إشارة السير متجهًا نحو شارع عزمي ومحيطه من الشوارع التجارية في طرابلس، قد يظنّ للوهلة الأولى أننّا في فترة الأعياد: زحمة سير خانقة، لكنّها ليست من مخلفات الرخاء الاقتصادي وانتعاش عجلة الأسواق، بل نتيجة انقطاع عددٍ من المسارب الرئيسة في المدينة، وتحديدًا ساحة النور، منذ بدء ثورة 17 تشرين الأول 2019.
اختناق متلاحق
لم يستفد شارع عزمي من هذه الزحمة، إلّا لكونه تحول جسر عبورٍ للسيارات الهاربة من الزحام، بعد ما كاد يفقد دوره الاقتصادي بالكامل. هذا الشارع العريق بتاريخه وعمارته وماركاته العالمية ومحاله التجارية المتوسطة والعالية الجودة، هو منذ عقودٍ طويلة شريان طرابلس وقلبها النابض في جذب أبناء ضواحي المدينة الشمالية. ولا مبالغة في القول إنه دخل مرحلة الانهيار الكامل.
في بدايات الأزمة الاقتصادية، التي ازدادت وطأتها بعد ثورة 17 تشرين نتيجة تكشير السلطتين السياسية والمالية (المصرفية) عن أنيابهما ضدّ الناس والشارع، لم يقاوم الشارع ومحيطه هذه الأزمة القاهرة، لا سيما شارعي نديم الجسر وقاديشا. فقد انتهى عام 2019 بإغلاق نحو 35 محلًا تجاريًا في هذه الشوارع، وصرف مئات العمال، واقتطاع نصف رواتب ما تبقى من عمال المؤسسات والمحلات الباقية. لكن في بداية العام 2020، سرّعت الأزمة الانهيار الاقتصادي، ونحن اليوم أمام أكثر من 75 محلًا تجاريًا أغلق أبوابه في هذه الشوارع المتلاصقة، ومئات سواها يعلن أصحابها عن تنزيلات خيالية تُفقدهم القدرة حتى عن تحصيل رأس مال بضائعهم، تمهيدًا للتصفية الشاملة".
وقبل أيام ضجّت طرابلس بإغلاقٍ عددٍ من متاجر الماركات العالمية مثل Promod وJust BRANDS، في شارع نديم الجسر الملاصق لشارع عزمي. ويتهيأ محل MANGO إلى إغلاق أبوابه في نهاية شهر شباط الحالي. وهذا يعدّ سابقةً غير متوقعة، في ظلّ الاعتقاد الشعبي أنّها من الأقل تأثرًا بالأزمة الاقتصادية اللبنانية، وآخر من يمكن أن تغلق أبوابها بعد التجار المحليين. فهل بدأ من طرابلس انسحاب الشركات والماركات العالمية من لبنان؟
صدمة الأزمة
ندخل محل AGACI لبيع الألبسة الرجالية في عزمي. وعمر المتجر يناهز 35 عامًا، وتتكدس فيه البضائع، بينما يجلس عدد قليل من الموظفين يتسامرون حينًا، ويخرجون للتشمّس في الخارج أحيانًا أخرى. يقول أحدهم: "لم تمرّ علينا فترات صعبة كهذه. نمضي أحيانًا أياماً عدّة من دون أن نبيع بليرة واحدة، رغم كل التحفيزات التي نقدمها وعروض كسر الأسعار".
ندخل محلًا لبيع الألبسة الولادية مقابل هذا المتجر. تُخبرنا المسؤولة عنه أنّ المبيعات هذا الموسم تراجعت أكثر من 70 في المئة مقارنة بالعام الماضي: "لأن الناس بالكاد تأتي لشراء حاجتها الضرورية والملّحة، لدرجة جعلت محلاتنا من الكماليات، فيما يقف الجميع عاجزًا عن تحرير الرواتب من المصارف".
في شارع قاديشا تقتصر الزحمة على أبواب بنك لبنان والمهجر، في ظل تراجع الحركة إلى حدٍّ كبير، بعد ما أصبح بين كلّ محلٍ وآخر يفتحان أبوابهما، محلّ أو أكثر أغلق أبوابه، وأُلصقت عليها أوراق إعلانية بأرقام الهواتف من أجل التواصل، إمّا للاستثمار وإمّا للبيع. في شارع نديم الجسر لا تقلّ الحال سوءًا. نمر بالقرب من عاملين في عددٍ من المحالات، فنراهم يتبادلون أطراف الحديث، وكأنّ رصيفهم المشترك تحوّل إلى مساحةٍ لصبحيات في الشمس، وفضفضة ما في قلوبهم المتعبة. تقول إحدى العاملات لزميلٍ لها في محلٍ آخر: "شو كيف البيع؟"، فيجيب "زفت"، ثمّ تضحك عالياً، فتردّ عليه: "آخر همي، المهم نقبض هـ المعاش الزفت".
كوارث خطيرة
عن هذا الواقع، يقول رئيس جمعية تجّار شارع عزمي، طلال بارودي، لـ"المدن"، إن معظم الشركات والماركات العالمية أصبحت عاجزة عن الاستيراد من الخارج، بسبب العراقيل في التحويلات المصرفية. وفي القريب العاجل يطال هذا بشكلٍ أوسع التجار المحليين الذين لا يتعاطون مع المصارف، ويسافرون للشراء نقداً، "مع احتمال تشديد الإجراءات على كمية الكتلة النقدية التي يسافر بها التجار عبر المطار"، حسب بارودي الذي يضيف: "إلى جانب انعدام حركة المبيعات، تضاعفت الأزمة في المحال التجارية بسبب حجز البنوك أموال التجار والمواطنين، ولأن أموال التجار عالقة في المصارف، ومعظمها بات لا يقبل تبادل شيكات الدولار كي لا يحتجزها المصرف، وهم عاجزون عن تأمين السيولة". كما أنّ وجود سعرين لصرف الدولار، "الأول وهمي في المصرف، والثاني حقيقي في السوق السوداء، إضافةً إلى صرف آلاف العمال من أشغالهم أو تقاضي نصف راتب، عطّل الحركة بشكلٍ كامل في أسواق طرابلس".
ويشير بارودي أنّ شارع عزمي الرئيسي، أغلق فيه مؤخرًا نحو 3 محال، وفي آخر شهر شباط تصبح 7 متاجر مغلقة. أمّا في شارعي نديم الجسر وقاديشا ومتفرعاتهما، فقد تجاوز الإغلاق 50 محلًا تجاريًا، وتضاعف العدد مع بداية العام 2020، "لأنّ التجار يتحضرون لآخر الموسم، ويحاولون تصفية بضاعتهم بأقل سعر ممكن، لأنهم عاجزون عن الاستيراد مجددًا أو دفع بدل الاستثمار ورواتب العمال".
مشكلة أخرى يشير إليها بارودي، وهي أنّ معظم تجار هذه الشوارع لا يملكون محلاتهم، ويدفعون شهريًا بدل استثمارها، و"أغلب العقود مسجلة بالدولار الأميركي، وبعض المالكين لا يراعون ظروف المستثمرين، فيصرون على تقاضي بدل الاستثمار بالدولار، ما يؤدي إلى مشاكل كبرى بين الطرفين".
هشاشة طرابلس
من جهته، يعتبر رئيس غرفة التجارة والصناعة توفيق دبوسي، أنّ الوضع في الشمال عمومًا على المستوى الاقتصادي ليس طبيعيًا على الإطلاق. وهو "يعيش أزمة غير مسبوقة منذ العام 1975، مع انعدام الثقة بين المواطن والمؤسسات المصرفية، لا سيما أن محور الاقتصاد اللبناني يرتكز على المصارف". وما يحدث حاليًا على المستوى المالي في المصارف، "هو تجاوز للخطوط الحمر، ولا يعقل أن يبقى المصرف المركزي عاجزًا عن إنعاش الاقتصاد وانقاذ لبنان، ولو بالحدّ الأدنى، من كارثته".
ويشير دبوسي لـ "المدن" إلى أنّ الوضع في بيروت لدى متابعته مع جمعية تجار بيروت، لا يقلّ سوءًا عن طرابلس، "لكن المشكلة الأكبر في الشمال هي أنّ معظم المؤسسات هشّة لأنها صغيرة ولا تتحمل مقاومة هذا النوع من الأزمات والخسائر".
ويقول: "الواقع المصرفي ينذر بمخاطر كبيرة، ونحن في انتظار خطوات الحكومة وانعكاساتها على الاقتصاد اللبناني. ونترقب خريطة تطور العلاقات مع دول الخليج والدول الأوروبية. وإن لم يحدث أيّ تقدّم، نكون أمام نكبة وطنية تاريخية، تهدد الأمن الاجتماعي، ولن تقتصر الأزمة حينها على محلٍ أو شركةٍ تغلق هنا وأخرى هناك".