بين صواريخ تضرب، ومفاوضات تدور خلف الكواليس أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقفاً لإطلاق للنار بين إيران وإسرائيل تمهيداً لاتفاق دائم، بينما الجبهات الشمالية والجنوبية لإسرائيل ما تزال مفتوحة على الاحتمالات.
صمود إيراني كبير في وجه الآلتين العسكريتين الإسرائيلية والأميركية واستنزاف اجتماعي واقتصادي متسارع داخل المجتمع الإسرائيلي، وكواليس دبلوماسية سجلّت فيها قطر بصمة "صاروخية" امتصت صدمتها لهندسة اللحظة السياسية الأكثر تعقيداً في المنطقة.
كيف صمدت طهران؟ ولماذا رضخت تل أبيب؟
وما الدور الذي لعبته قطر في رسم خطوط النهاية؟ وأين يقف لبنان وغزة من كل هذا السيناريو؟
مع إعلان ترامب عن اتفاق لوقف إطلاق نار بعد عدة ساعات ويستديم لمدة 24 ساعة، يعقبه وقف دائم للحرب بين إيران وإسرائيل، تدخل المواجهة بين إيران وإسرائيل منعطفاً جديدا ومرحلة حساسة بعد حرب استمرّت عشرة أيام .
لكن خلف هذا الإعلان العلني، تختبئ معطيات رسمت ملامح هذا السيناريو غير المتوقع في حسابات البداية.
منذ الساعات الأولى للمواجهة المباشرة، راهنت إسرائيل وأميركا على أن الضربات الدقيقة ستكسر القدرة الإيرانية على الصمود وتدفعها سريعاً إلى طاولة التفاوض بشروط مذلّة. غير أن إيران، رغم الثمن الباهظ الذي تكبّدته عسكرياً، أظهرت صلابة قوية في التصدي والمواجهة وحافظت على استمرار وتيرة تساقط الصواريخ في العمق الإسرائيلي . صمدت البنية القيادية للنظام الإيراني، وسقطت كل المشاريع والأمنيات لإسقاطه، ونجح الحرس الثوري في الحفاظ على هيكلية قياداته الميدانية، مع استمرار قدراته على الرد الموجع في العمق الإسرائيلي، سواء عبر الصواريخ البالستية والفرط-صوتية أو الطائرات المسيرة بعيدة المدى . وفي مقابل كل ضربة تلقتها طهران على بنيتها النووية والعسكرية، كانت تل أبيب تتلقى ضربات موجعة في جبهتها الداخلية وسط استنزاف مستمر للمدن الإسرائيلية المحورية وتعطيل شبه دائم للمجال الجوي والاقتصاد الحيوي و ضغط نفسي متصاعد على المجتمع الإسرائيلي الذي عاش تحت رحمة الصواريخ الإيرانية لأول مرة منذ إنشاء الكيان عام 1948
ورغم القدرات التكنولوجية العالية للمنظومات الدفاعية الإسرائيلية، إلا أن الحرب طالت أكثر مما توقع قادة تل أبيب. فإسرائيل دخلت دوامة الاستنزاف المزمن، حيث لم تعد تتحدث فقط عن جبهة عسكرية، بل عن تداعيات اجتماعية واقتصادية عميقة وسط موجات نزوح داخلية من المدن المستهدفة نحو الجنوب والملاجئ ، و شلل في قطاعات السياحة والصناعة والتكنولوجيا ، و تراجع حاد في ثقة المستثمرين بالاستقرار الداخلي للكيان العبري ، وتململ سياسي داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها مع ازدياد الضغط الشعبي.
قطر: اللاعب الهادئ في الكواليس
في الخلفية، برز دور الدوحة كلاعب هادئ وفعّال في كواليس المفاوضات. بفضل شبكة علاقاتها المتشابكة مع كل من طهران وواشنطن، ومعرفة دقيقة بعقلية صناع القرار الإيرانيين عبر قنواتها المتعددة، لعبت قطر دور الممر السري للرسائل، مستفيدة من ثقلها المتزايد في هندسة التفاهمات المعقدة في الأزمات الإقليمية. وعليه تلقت الدوحة ضرب قاعدة "العديد" بصدرها ، كثمن تبرّعت به لإيران كحلّ وسطي ينهي مواجهتها مع واشنطن ويعيد التصويب نحو إنهاء الحرب مع إسرائيل.
لم يكن سهلاً جمع إيران والولايات المتحدة على نقاط تفاهم تتيح إنهاء المواجهة دون منتصر واضح، لكن الدوحة نجحت في هندسة مساحة مقبولة لجميع الأطراف للحفاظ على ماء الوجه ، أظهرت إيران بمظهر الصامد الذي فرض معادلة ردع جديدة وأنجت إسرائيل من الغرق في مستنقع حرب استنزاف طويلة لا أفق لها ،ومكنت واشنطن من قطف اللحظة و تمرير اتفاق تهدئة يحفظ مصالحها الاستراتيجية في المنطقة .
لماذا لم تفرض إيران على إسرائيل االإلتزم بوقف إطلاق النار في لبنان ؟
بالرغم من نهاية الحرب بتوقيع إيراني باليستي إلا أن الاتفاق لا يشمل جبهتي لبنان وقطاع غزة.
فالجبهتان الشمالية والجنوبية لإسرائيل ما تزالان في حالة تفعيل مستمر ، فإسرائيل ترفض الإلتزام بوقف إطباق النار مع لبنان رغم التزام الأخير ، وتخوض معركة لا أفق لها لتجريده من كل عناصر القوة التي ما زال يحتفظ بها . والمخطط الإسرائيلي بالقضاء على حماس في قطاع غزّة مازال قائماً ، وبمعنى آخر ما انتهى هو "الحرب الكبرى" المباشرة بين إيران وإسرائيل واستمرار الحرب الباردة على نار ساخنة .
و يبقى الثابت الوحيد أن قواعد الاشتباك في المنطقة دخلت مرحلة جديدة من التعقيد.
فالصراع لم ينتهِ فعلياً، بل انتقل إلى نمط مختلف ستظهر ملامحه في الأشهر المقبلة .
علي منصور