عربي دولي

إيران وحروب الجيل الخامس

كتب المحلل والصحافي علي منصور:
في حروب الجيل الخامس، تبدأ المعركة بعد وقف القصف، أو قد تكون مندلعة قبل بدء الهجوم العسكري. في الداخل الإيراني ثمة جبهة مفتوحة أخطر بكثير من الصواريخ والطائرات والمسيرات، إنها جبهة العملاء والخونة.

بعد اغتيال أول عالم نووي، تأكدّ الإيرانيون أن الحرب الحقيقية ليست في السماء، إنما في الشوارع الخلفية، في المكاتب الرسمية، في المقاهي الهادئة، وفي الهواتف الخاصة التي لا تفارق أيدي العملاء.

ما كشفته الحرب بين إيران وكيان الإحتلال من اغتيالات دقيقة طالت علماء نوويين ومهندسين وقادة عسكريين داخل مواقع محصَّنة، ومن تسريب خرائط لمواقع عسكرية ومنشآت نووية، يشير ويؤكد أن الكيان الإسرائيلي كان لديه في الداخل الإيراني شبكات للعملاء فوق حدّ التصور، وهو عملياً بدأ حربه على إيران منذ سنوات خلت بصمتٍ وهدوء.

فهذه الشبكات لم تولد بين ليلة وضحاها، بل بنتها إسرائيل بتأنٍّ ورويّة، موظفة العقوبات الاقتصادية وأدوات الابتزاز المالي، وتيارات المعارضة الخارجية، ومستغلة الحدود الرخوة مع كردستان العراق وباكستان وأفغانستان.

فقد أدارت تل أبيب، طيلة سنوات، شبكات جهنمية من العملاء في العمق الإيراني، زرعتهم في مراكز الأبحاث، في غرف العلماء النوويين، في إدارات التكنولوجيا، حتى في قلب الأجهزة الأمنية نفسها. هؤلاء لم يحملوا سلاحاً، بل حملوا كاميرات سرية وأجهزة تشفير وعقول خائنة. كما تمكنت هذه الأجهزة من تشغيل شبكات محلية تتكون من تجار عملة ومهربين على الحدود الشرقية والغربية، وتنشيط خلايا نائمة لتنفيذ مهام محددة عند الحاجة مثل الاغتيالات وتصوير مواقع حساسة ونقل المعلومات. واستطاعت القوّة السبرانية المعادية تحقيق اختراقات إلكترونية ممنهجة عبر أجهزة التواصل والتجسس على الهواتف والشبكات الداخلية. هذا التغلغل المعقد يجعل من المعركة القادمة مع هذه الشبكات العميلة تحدياً استخباراتياً وأمنياً ضخماً لدى القيادة الإيرانية.

إنها حرب العقول الخبيثة بالدرجة الأولى، لا حرب الصواريخ والمدافع، حيث لا تحتاج "إسرائيل" إلى وجود جندي واحد داخل طهران إذا كان بوسعها تشغيل “عقول عميلة” تقف في قلب أهم مراكز علمية نووية أو منشآت عسكرية وأمنية دقيقة.

قد تكون المعركة مع عملاء الداخل أطول وأدق من أي مواجهة عسكرية خارجية، لأن الجبهة هنا تقع في صميم النسيج الوطني الإيراني. وبقدر ما تشكل هذه المواجهة خطراً داهماً، فإنها تتيح أيضاً فرصة لإيران لبناء منظومة أمن داخلي أكثر صلابة وأقل عرضةً للإختراق.

المعركة الأخطر بدأت الآن

رغم نجاح طهران في امتصاص الضربات الجوية والصاروخية وصولاً لتسجيل الضربة الأخيرة قبل سريان وقف إطلاق النار، إلا أنّ المعركة الأخطر لم تنتهِ بعد. بل يمكن القول إن المرحلة القادمة من الصراع قد تنتقل إلى الداخل الإيراني نفسه، حيث تتواجد خلايا استخباراتية معادية وأدوات تجسس شكلت طوال السنوات الماضية أحد أخطر أذرع الاستنزاف الإسرائيلي ضد إيران.

ومواجهة هذه الخلايا العميلة لا تقل خطورة عن صد الصواريخ والقنابل، بل ربما تكون أكثر تعقيداً وتشابكاً لأن هذه الخلايا تضرب في صميم المجتمع الإيراني عبر التجنيد السري والاختراق النفسي وتعمل على تفكيك الثقة بين المواطن والدولة.

المطرقة فوق رؤوس العملاء

ما بعد الحرب هو الامتحان الأصعب لإيران. فكلما تأخر تطهير الداخل، كلما زادت الهوة الاستخبارتية مع إسرائيل وكانت عرضة لمزيد من الاستهداف الداخلي. فطهران معنية بتطهير مؤسساتها تطهيراً شاملاً يشمل كل أجهزة الدولة الحساسة مع مراجعة دقيقة لملفات كل كوادر الدفاع والأمن والعسكر وحتى الخبراء النوويين.

في لبنان، حصل نفس الشيء، فشبكة العملاء الداخلية كانت ولا زالت كبيرة وقوية، تولّت المقاومة الشق الداخلي المتعلق بها، وبقي الشق الخارجي المرتبط بالوضع العام اللبناني المتسيّب والمعادي في بعض الأحيان، حيث تعجز المقاومة عن التطهير والمحاسبة في ظلّ أجهزة أمنية متواطئة في قسم منها، ومهملة في القسم الآخر. بينما يختلف الواقع الداخلي لإيران، خاصة بعد هذه الحرب الضروس التي خيضت ضدها، حيث يجب إبقاء المطرقة مرفوعة فوق رؤوس العملاء دون الإكتراث للحملات الجاهزة والمعلّبة التي سيطلقها الغرب بالتعاون مع عملاء الداخل والخارج المتسترين بجمعيات حقوق الإنسان والحرية والمساواة وما إلى ذلك من أُطر العمالة المُقنعة. إسرائيل لن تكف عن محاولات استهداف إيران وستقاتل حتى آخر عميل وخائن.

الدعم الخارجي فرصة استراتيجية

لا تستطيع طهران خوض هذه المعركة بالكامل وحدها. فخبرات الشركاء في موسكو وبكين قادرة أن تمد إيران بتكنولوجيا الرصد السبراني المتقدمة. روسيا قدمت نفسها خلال السنوات الأخيرة كشريك يمكن التعويل عليه في تطوير أنظمة الدفاع الجوي والاستخبارات المضادة. ومن غير المفهوم لماذا لم تكترث طهران للتعاون مع روسيا في مجال الدفاع الجوي كما قال الرئيس فلاديمير بوتين.

أما الصين، فهي الشريك القادر على دعم البنية التحتية التقنية لمنظومات المراقبة والتحليل عبر الذكاء الاصطناعي. حتى باكستان التي عانت كثيراً من اختراقات مماثلة في تاريخها، تملك خبرة مهمة يمكن نقلها لإيران في مراقبة الحدود وتفكيك شبكات العملاء العابرة للحدود.

وإيران التي تصدّت لغارات الطائرات والمسيرات وأمطرت قلب الكيان بصواريخها البالستية والفرط-صوتية، قادرة أن تصدّ غارات العملاء والخونة في داخلها. الطائرات تكشفها الرادارات، أما العملاء والخونة فلا يكشفهم سوى وعي الشعب وصلابة الدولة ومطرقة الباسيج التي يجب أن تبقى مرفوعة فوق رؤوس العملاء.

إيران اليوم أمام امتحان بناء المناعة الوطنية أمنياً وسياسياً واجتماعياً وإلكترونياً لمواجهة حروب الجيل الخامس القادمة.

إسرائيل أطلقت كل ما في جعبتها من صواريخ على إيران، لكن أخطر ما كانت تملكه لم يكن في الجو، إنما في عمق جغرافيتها المترامية الأطراف.