بنت جبيل.اورغ
تتكثف المؤشرات السياسية والأمنية لتؤكد أن ما يجري اليوم تجاوز تماماً حدود ما يمكن وصفه بـ”المفاوضات غير المباشرة”. فالخطوة التي اتخذها لبنان بتسمية السفير سيمون كرم للتواصل مع لجنة الميكانيزم، مقابل تعيين إسرائيل ممثلاً رسمياً لدى اللجنة نفسها، ترسم إطاراً واضحاً لتفاوض مباشر بصيغة عملية، مهما حاول البعض إخفاء الحقيقة أو تغليفها بعبارات ملتبسة.
ويشير الصحافي موسى عاصي إلى مفارقة بالغة الدلالة. فقبل أسابيع قليلة فقط، عرض لبنان عبر رئيس الجمهورية مبادرة لإطلاق مفاوضات غير مباشرة تهدف إلى تثبيت وقف النار وتنسيق الملفات الحدودية. الاقتراح وُضع جانباً بلا أي رد. لا نقاش، لا اتصال، ولا حتى رسالة بروتوكولية تفيد باستلامه. اليوم، وبعد حملة تهويل مركبة، تقبل إسرائيل والولايات المتحدة صيغة مشابهة تماماً لما رُفض سابقاً، لكن بثوب تفاوض مباشر. هذه وحدها كافية لطرح سؤال حول من يفرض الإيقاع، ومن يلحق به.
ويضيف عاصي أن التحول الذي نشهده اليوم لم يهبط فجأة. فقد سبقه خلال الأسابيع الماضية سيل من الترهيب المنظم. روايات عن حرب وشيكة ستكون أوسع وأقسى من حرب 2024، وعن عمليات قد تستهدف مؤسسات الدولة والجيش ومواقع حيوية في بيروت وخارجها. المشهد رُسم لإقناع اللبناني بأن القادم كارثي، وأن أي مسار تفاوضي، مهما كان شكله، أهون من السيناريو الأسود المرسوم له.
واللافت، كما يؤكد عاصي، أن ماكينة التهويل لم تكن إسرائيلية بالكامل. فداخل لبنان، اشتغلت ماكينة التطبيع بقوة غير مسبوقة. مجموعات ناشطة على وسائل التواصل، من مختلف الطوائف والجهات، عملت على بث الخوف خطوةً خطوة، مع حضور واضح لخطاب مجموعات مرتبطة بالقوات اللبنانية. الهدف كان واحداً: نقل اللبناني من موقع الرفض إلى موقع الاستسلام تحت ضغط الخوف.
وفي الأسبوعين الماضيين تحديداً، وصلت هذه الماكينة إلى ذروتها. تخويف من حرب “لا تبقي حجراً على حجر”، تحذيرات من انهيار شامل، وإيحاء بأن لبنان لم يعد يملك سوى خيار واحد: الدخول في مسار تفاوضي مباشر يضمن تجنب الكارثة. هذا الجو النفسي المكثف صنع الأرضية التي ظهرت نتائجها اليوم.
وتأتي المفاجأة الأكبر مع المعلومة التي تسرّبت اليوم داخل الأوساط السياسية اللبنانية، والتي أثارت صدمة واسعة: الحكومة الإسرائيلية أبلغت أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سيرسل مبعوثين للقاء مسؤولين حكوميين في لبنان بهدف تعزيز العلاقات. خطوة غير مسبوقة، لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه الحديث، وتؤكد أن مساراً جديداً يتشكل، وأن التفاوض لم يعد تقنياً أو حدودياً، بل انتقل إلى مستوى سياسي أبعد بكثير مما كان متوقعاً.
ويرى عاصي أن هذه الخطوة ليست تفصيلاً. بل مؤشر على أن مسار التفاوض المباشر الذي بدأ اليوم قد يكون المدخل لتغييرات أعمق في العلاقة بين الطرفين، ولمنح إسرائيل مساحة للتقدم نحو أهداف تتجاوز الملف الحدودي إلى ملفات سياسية وأمنية داخلية.
وتخلص القراءة نفسها إلى أن ما نراه اليوم ليس مجرد مفاوضات، بل خطوة ذات طابع انحنائي واضح. فإسرائيل، كما يشير عاصي، لا تبحث عن تهدئة بقدر ما تبحث عن مكاسب. والقبول بالمفاوضات المباشرة، مترافقاً مع استعداد إسرائيل لإرسال مبعوثين إلى لبنان، قد يكون فاتحة لسلسلة من التنازلات المستقبلية التي سيكون لها أثر بالغ على لبنان وعلى موقعه السياسي.