عكس معظم الأمهات، لا تتمنى الحاجة روحية، أن يجعل الله يومها قبل يوم أبنائها الشباب الثلاثة، بل تتمنى أن تفارق أرواحهم سويًا، كما كانوا في حياتهم: أربعة في شخص واحد.
في قاموس «روحية»، بر الأمان الذي توصل إليه صغارها ليس الحصول على الشهادة الدراسية، أو تأسيس أسرة ورؤية الأحفاد، وإنما إيصالهم إلى بارئهم راضين. ورغم قتامة التصور، إلا أنه يعبر عن محبة خالصة من الحياة للموت، بكلمات ممتثلة تنشُد الصبر وعون الله لا أكثر«اللي يسمعني يدعيلي بالصبر، وإنه يقويني عليهم لما نوصلهم لبر الأمان بتاع ربنا».
روحية محروس حبيب، ابنة مركز «الشهداء» بمحافظة المنوفية، ذات الواحد وستين عاما، قضت معظمهم في أشغال شاقة ويوميات مضنية تتخللها بعض اللحظات من البهجة الخالصة المسروقة من الزمن، في رعاية أبنائها الذين لم يعودوا صغارا، وعلى ذلك، مازالت تسهر على كل تفصيلة من تفصيلات يومهم بدءًا من استيقاظهم في الصباح، ومساعدتهم في ارتياد دورات المياه، وتناول الطعام، وتحميمهم، والأهم من ذلك، ألا يغيبوا عن ناظريها فتخونهم ذاكرتهم المحدودة، ولا يستطيعون العودة أبدا.
وفقا لمعارفها المحدودة، حظي صغارها بأدمغة مبتسرة، غير مكتملة النمو، جعلت قدرتهم على التواصل والكلام بشكل طبيعي شبه مستحيلة، كذلك اكتسابهم مهارات تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم بتقدُمهم في العُمر والكف عن الاحتياج لروحية وعنايتها اللصيقة، حتى الذاكرة كذلك يشوبها الخلل، فلا يستطيعون تمييز من يلاقون ترحابهم المتواصل ووجوههم البشوشة دائمًا بجفاء وخشونة من الجيرة والأغراب، فيعيدون الكرة بغير أن يشعروا بالأذى، بينما تستاء روحيّة بدلاً منهم.
تتراوح أعمار سامي وسالم وعلي بين أربعين إلى سبعة وعشرين عامًا، وروحية التي تزوّجت صغيرة في سن السابعة عشر، تتكفّل بمسؤوليّاتهم وحيدة منذ ما يزيد عن عقدين، بالتحديد منذ 25 عامًا، حين فارقها الزوج وسافر للعمل ولم يعد كالمعتاد. بعد كُل هذه المُدة، لا تعرف روحية على وجه التحديد لماذا فارق الأب وترك لها التركة الثقيلة تضطلع بها بمفردها، ولا يبدو أنها مشغولة بالإجابة عن هذا السؤال «أما جبت العيال دي، سابنا، مفيش سبب عشان أقولك سبب، هو مشي لوحده».
يوميّات مزدحمة لروحية من طلوع الشمس حتى المغيب يملأها الشبان الثلاثة، ورُبما تعصمها من الخواطر الثقيلة التي قد تلم بها، إذ ليس هنالك وقت لأن تفكّر لأي مدى كانت شقية برحلتها.
بعين مغمضة وعين مفتوحة تقضي ساعات نومها المعدودة، وتستيقظ أكثر من مرة لتطمئن أن أحدًا منهم لم يفارق، في النهار كذلك، لا تمر لحظة بغير أن تُنادي روحيّة على واحد منهم، أما لحظات الغضب والكلل، فتستعين عليها بزفرات مكتومة وبكاء صامت: «أنا لما تضيق بيا بقعد أعيط، لا بقول متضايقة ولا بقول فيّا، وبرجع أقول انا معاهم لحد آخر يوم في عمري».
انشغالها بالثلاثة، لم يجعل روحية تفرّط ولو قليلاً في حق ولدها الرابع، المهندس محمد حبيب، ابنها المعافى الوحيد، الذي أصرّت أن ينهي تعليمه ويتخرّج في كلية الفنون التطبيقية، بغير أن تجبره على إنهاء دراسته سريعًا والانضمام إليها لمساعدتها في حملها الثقيل كما دأب المحيطون على النُصح، وتتذكر من بين ما تتذكر أنها اضطرت في عام تخرجه لبيع حلقها، قطعة مصاغها الوحيدة، لتعينه على مصروفات مشروع تخرُجه، غير أن هذا لا يساوي شيئًا اليوم مقابل تباهيها بقرة عينها.
بعدما يزيد عن الأربعين عامًا، تشعر روحية بتمام الرضا عما اختار لها ربها، وتقول «مش زعلانة إن ربنا مديهوملي كدة، أنا خلاص اتعودت عليهم كدة، غلابة وطبيبين ومش عارفين حاجة، حياتي أحسن بيهم ومش عاوزة حاجة من الدنيا»، وعندما يأتي الأمر للتمني، ترتبط أمنيتها الوحيدة بتوفير سقف نظيف وآمن لهم.
وتناشد الحاجة روحيّة وزارة الأوقاف بمحافظة المنوفية، أن تبت في طلب كانت قد قدمته للوزارة قبل أشهر، لمُبادلة بضعة أمتار داخل سور دارها البسيطة أهداهم جد أولادها قبل عقود كي تكون دورات مياه لمسجد القرية، واليوم وبعد تحديثه وإعادة بناؤه، أصبحت مساحة مهملة وتشكّل خطرًا على أولادها، وترجو من المسؤولين أن يبتوا في طلب المُبادلة ذاك، لتستطيع أن تبني غرفة زيادة داخل دارها.
تغطية مباشرة
-
الإسعاف الإسرائيلي: إصابة خطيرة في كفار بلوم بالجليل الأعلى إثر سقوط صاروخ أطلق من لبنان
-
وسائل إعلام إسرائيلية: إصابة 10 إسرائيليين في نهاريا وحيفا وبيتاح تكفا إثر إطلاق صواريخ من لبنان
-
وسائل إعلام إسرائيلية: سقوط صواريخ في كريات شمونه وأنباء أولية عن سقوط إصابات
-
تجدد دوي صفارات الإنذار في كريات شمونه ومحيطها