دفعت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها لبنان، وخصوصاً النقص الكبير في الأدوية والعلاجات الأساسية اللازمة، كثيراً من المواطنين إلى ملء حقائبهم بالأدوية في طريق عودتهم لبيروت من الخارج، والتي أصبحت أكثر الهدايا قيمة في الوقت الحالي.
فلم تحمل ليديا، السيدة الستينية، خلال رحلتها الأخيرة إلى بيروت آتية من مارسيليا الهدايا، بل ملأت حقائب سفرها بأدوية تخطت كلفتها الألف يورو لتوزعها على أفراد عائلتها وأصدقائها الذين لا يجدون في صيدليات لبنان أياً منها.
تقول ليديا لوكالة فرانس برس، الأحد 11 يوليو/ تموز 2021، "حملت معي من كل شيء، أدوية مضادة للالتهابات، وأدوية ضغط وكوليسترول وسكري وباركنسون وسرطان، فضلاً عن الكثير من الأدوية المضادة للاكتئاب".
وصلت ليديا إلى منزلها في بلدة بعبدات شمالي بيروت فجراً، وما هي إلا ساعتان فقط حتى بدأ الزوار يتوافدون إليها، كل منهم متشوق للحصول على أدويته.
تضيف ليديا "لم يكن بوسعي حتى أن أنام، لكني أتفهمهم، فليس هناك أسوأ من نقص الدواء"، موضحة أن بعض الأشخاص الذين أحضرت لهم الأدوية يعانون من أمراض مزمنة، ولم يتمكنوا منذ أكثر من أسبوعين من تأمين العلاج.
ليست ليديا وحدها، إذ إن والديها أيضاً حملا معهما من فرنسا أدوية لـ12 شخصاً ملأت حقائبهما الأربع.
وقد أعادت الأزمة الحالية إلى ذهن ليديا سنوات الحرب الأهلية (1975-1990)، حين كان يأتي المغتربون محمّلين بحاجات أساسية فُقدت من الأسواق.
تقول ليديا "صحيح أننا كنا نخاف من القذائف، لكننا لم نشهد يوماً نقصاً في الأدوية أو الوقود كاليوم"، مضيفة "لم نشعر يوماً بهذا القدر من الاختناق، ما يحصل اليوم غير مسبوق وسريالي".
أما الزوجان اللذان فقدا ابنتهما الكسندرا في انفجار مرفأ بيروت، فقد عادا الشهر الماضي حاملين حقيبة مليئة بالأدوية لأقاربهما ولأشخاص تواصلوا معهما على وسائل التواصل الاجتماعي.
اشترى بول وترايسي قطرات للعين، وحليباً مجففاً، وأدوية مضادة للاكتئاب، وأخرى لعلاج الضغط وأمراض القلب.
وتروي ترايسي "الصيدلي (في قبرص) عرف سريعاً أننا من لبنان، وقال لنا إن صديقين مرا عليه قبل يومين لشراء طن من الأدوية".
ومنذ أشهر، يجهد أحمد (58 عاماً)، الذي يعاني من ارتفاع في الضغط ومرض السكري، ليجد علبة دواء واحدة على الأقل، حتى بات الأمر مستحيلاً.
وبعدما اختفت أدويته من الأسواق حدّد له طبيبه أدوية بديلة عنها، لكن حتى هذه "لم يعد من الممكن إيجادها".
أمام هذا الواقع، اضطر أحمد، الذي يعمل في موقف سيارات أحد مطاعم بيروت، إلى التوقف عن استهلاك الدواء لأسابيع، لكنه سرعان ما أصيب بنوبات ارتفاع حاد في الضغط.
وما كان منه إلا أن اتصل بأحد أقاربه في إسطنبول، وبصديق في الإمارات المتحدة، ليطلب منهما إرسال أدوية له مع معارف قادمين إلى لبنان.
ويقول: "نحن أمام خيار الموت، لأننا لا نجد الأدوية، لأنه لم يعد لدينا أموال بعدما صرفناها كلها على أدوية نشتريها من الخارج".
حالة غير مسبوقة
ومنذ مطلع العام، يبحث اللبنانيون عبثاً عن أدويتهم في صيدليات نضبت محتوياتها تدريجياً. وينشر مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي يومياً أسماء أدوية يحتاجونها، وبات كثر يعتمدون على أصدقائهم وأفراد عائلاتهم في الخارج لتأمين أدويتهم، بأسعار مرتفعة جداً مقارنة مع السعر المحلي المدعوم.
واحتجاجاً على نقص الأدوية، بدأ تجمع أصحاب الصيدليات الجمعة إضراباً عاماً مفتوحاً، كما حذّرت نقابة مستوردي الأدوية من "نفاد" مخزونها من "مئات الأدوية الأساسية، التي تعالج أمراضاً مزمنة ومستعصية".
ويأتي ذلك بعدما شرعت السلطات منذ أشهر في ترشيد أو رفع الدعم تدريجياً عن استيراد سلع رئيسية بينها الأدوية، وتسبب تأخر فتح اعتمادات للاستيراد بانقطاع عدد كبير في الأدوية، بينها حتى مسكنات الألم العادية وحليب الأطفال الرضّع.
ويطالب مصرف لبنان منذ أشهر وزارة الصحة بوضع جدول أولويات بالأدوية التي يجب مواصلة دعمها.
كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أعلن أنه سيسدّد "الاعتمادات والفواتير التي تتعلق بالأدوية، لاسيما أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية، ضمن مبلغ لا يتعدى 400 مليون دولار"، يغطي "مستوردات أخرى بما فيها الطحين".
إلا أنه بحسب نقابة مستوردي الأدوية لن يتخطى الجزء المخصص للأدوية 50 مليون دولار شهرياً، وهو ما يعادل نصف الفاتورة الاعتيادية.
أمام هذه التعقيدات التي تزيد من معاناة اللبنانيين، استغل بول نجار وزوجته ترايسي إجازة قصيرة إلى قبرص لشراء الأدوية.
وجراء الانهيار الاقتصادي المتسارع منذ صيف العام 2019، الذي رجح البنك الدولي أن يكون من بين أسوأ ثلاث أزمات في العالم منذ العام 1850 ولم تبق أي شريحة بمنأى عن تداعياته، بات أكثر من نصف اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، وقد خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار.
ويُحمّل جزء كبير من اللبنانيين الطبقة السياسية مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، ويتهمون المسؤولين بالفساد والهدر وسرقة المال العام.