تحت عنوان سوق العمل في لبنان: «التسكيج» مرحليّاً... ولا أعمال إلى أجل غير مسمّى! كتبت رحيل دندش في الأخبار:
عام 2019، بلغ معدل البطالة الإجمالي في لبنان 11.4% (14% للنساء و10% للرجال)، وفق مسح شامل للأوضاع المعيشية للقوى العاملة والأسر في لبنان أجرته إدارة الإحصاء المركزي بدعم من منظمة العمل الدولية. كان ذلك قبل الصدمة المزدوجة الناشئة عن الانهيار المالي بدءاً من تشرين الأول 2019 وانتشار وباء «كورونا» مطلع عام 2020
المؤكد، اليوم، أن البطالة بلغت معدلات قياسية. بحسب تقديرات وزارة العمل اللبنانية، وصل هذا المعدل عام 2020 الى نحو 36%، ويرجّح أن يبلغ 41.4% نهاية 2021، فضلاً عن «شبه البطالة» التي يعيشها كثيرون ممّن بقوا في وظائفهم مع خفض ساعات عملهم وتقليص رواتبهم. أضف إلى ذلك اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين الذين تراجعت الأعمال في القطاعات التي يعملون فيها.
تعدّ البطالة المعبّر الأبرز عن الأزمة البنيوية لنموذج الاقتصاد الريعي القائم، وخصوصاً منذ انتهاء الحرب الأهلية، على ركيزتين أساسيتين: أولاهما إنتاج العمالة محلياً من خلال الاستثمار في التعليم العالي وتصديرها إلى الخارج (بلغ عدد المهاجرين عام 2019 أكثر من 66 ألفاً بحسب «الدولية للمعلومات»)، وثانيتهما الاستفادة من عوائد التدفقات المالية في نشاطات اقتصادية ريعية، كالعقارات والأدوات المالية وتمويل استهلاك السلع والخدمات، من دون إنتاج في الاقتصاد الحقيقي، واعتماد سياسات الاقتصاد الكلي الليبرالية التي تقوم على حضور أقل للدولة مع منسوب عالٍ من الهدر والفساد، ما قضى على ما تبقى من قطاعات إنتاجية وصناعية قليلة كانت موجودة قبل الحرب الأهلية.
هذا النموذج خلق، بحسب مؤلف كتاب «سوق العمل وأزمة التشغيل في لبنان» الاقتصادي نجيب عيسى، وظائف متدنية الإنتاجية تتركز في قطاع الخدمات، لا تتطابق فيها المهارات المتوافرة مع الطلب على أنشطة لا تحتاج إلى عمالة ماهرة (ولا سيّما في تجارة التجزئة والبناء والخدمات والأعمال السياحية والزراعية الموسمية...). بسبب ذلك، لم تتوافر في سوق العمل فرص كافية تتناسب مع مؤهلات أفواج القادمين الجدد إليها. بحسب عيسى، «كان سوق العمل قبل الأزمة يستقبل نحو 40 ألف وافد جديد سنوياً، معظمهم من ذوي الشهادات الجامعية أو المهنية في مقابل 10 آلاف فرصة عمل متدنّية الإنتاجية لا تؤمن مردوداً يتواءم ومؤهلات هؤلاء، ففضّلوا البقاء عاطلين من العمل في انتظار فرصة للهجرة». فيما غطّت العمالة الأجنبية غياب هؤلاء. هكذا شغل السوريون، حتى قبل الحرب السورية، أعمالاً بأجور زهيدة في قطاعَي البناء والزراعة. لكن دراسة حديثة لمنظمة العمل الدولية شملت الفئات الثلاث الأكثر حرماناً من اللبنانيين والنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين المقيمين في 251 منطقة سكنية من الأكثر ضعفاً في البلاد، أظهرت أن الانهيار الاقتصادي لم يوفر هؤلاء. فقد أدى تراجع النشاط الاقتصادي إلى انخفاض الطلب على العمالة في هذه القطاعات، وبلغت معدلات البطالة بين اللاجئين السوريين 40.1%، رغم أن 95% من هؤلاء من العمال غير النظاميين. كما أن عدم دفع رواتب العمال الأجانب بالدولار أدى إلى انخفاض العمالة الأجنبية وهجرتها.
كذلك أدى عدم دفع رواتب العمال الأجانب بالدولار وإغلاق كثير من المؤسسات أبوابها إلى عودة عدد كبير من هؤلاء إلى بلادهم. فهل حلّ لبنانيون في هذه الأعمال بدل العمال الأجانب؟
يلفت عيسى إلى أن «الانزياح في سوق العمل نحو أعمال لا تطلب مهارة كان موجوداً قبل الأزمة. إذ إن 31.5 في المئة من مجمل القوى العاملة كانت تعمل في وظائف ذات متطلبات أقل من مستوى التعليم الذي حصّلته. لكننا من الآن وصاعداً سنشهد ارتفاعاً في هذا الرقم لأن كثيرين سيضطرون إلى مزاولة أعمال كانوا يمتنعون عن مزاولتها سابقاً»، كوظائف الـ«فاليه باركينغ» وتوصيل البضائع (دليفري) وأعمال الصيانة (هواتف، أدوات كهربائية...) والخياطة وسائقي الأجرة وعاملات المنازل وعمال النظافة... لكن هذا تسكيج مرحلي، لأن لا أعمال حقيقية في لبنان اليوم وإلى أجل غير مسمّى».
وصل هذا المعدل عام 2020 إلى نحو 36%، ويرجّح أن يبلغ 41.4% نهاية 2021
في السياق نفسه، برزت «مشاريع» تصنيعية لتغطية وقف استيراد بعض السلع بعدما أصبحت خارج متناول الفئة الأعظم من اللبنانيين ممن فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية. و«ازدهرت»، بعد الأزمة، صناعات غذائية كالألبان والأجبان ومواد التنظيف... لكن هذه الصناعات، بحسب عيسى «حل انتقالي وليست الحل على المدى المتوسط والبعيد لأن كل البنى الاقتصادية الزراعية والصناعية اللبنانية متقادمة وبحاجة إلى تحديث، رغم أهمية طرق كل الأبواب في محاولة للجم التدهور». كما أن من الصعب الحديث عن سوق العمل من دون ربطه بالكيفية التي ستتم فيها عملية الإنقاذ الاقتصادي. «وعندما تكون هناك خطة للنهوض والتعافي، يمكن الحديث عن تقديرات أولية لاتجاهات تطوّر سوق العمل». لذلك «من الضروري ربط التدريب والتعليم المهني مع تطور الاقتصاد وحاجاته. فعندما نخلق حاجات اقتصادية تحتاج إلى تعليم وتدريب مهني، نركز على التعليم المهني وإلا سيكون لدينا عاطلون من العمل رغم أنهم مؤهلون مهنياً»!
المعالجة الناجعة للأزمة، وفق عيسى «غير ممكنة فقط من خلال السياسات ذات المنحى النيوليبرالي التي تسعى إلى ما يسمى تنشيط سوق العمل، حتى ولو واكب هذه السياسات إصلاح لأنظمة التعليم والتدريب وإجراءات لتنظيم الاعتماد على اليد العاملة غير اللبنانية. فهذا كله، على أهميته، لا يمكن أن يساهم في معالجة الأزمة ما لم يوضع في سياق استراتيجية تهدف إلى التحوّل من نمط الاقتصاد السائد إلى نمط آخر يكون قادراً على إطلاق عملية نموّ اقتصادي مستدام على قاعدة بنية إنتاجية محلية أكثر صلابة وأقل تعرّضاً للصدمات الخارجية، وتعتمد في شكل رئيسي على الموارد البشرية والمالية والطبيعية المحلية، وتتمتع بقدرة تنافسية عالية». وهذا التحول يكون من خلال «اقتصاد المعرفة» الذي يقوم على إنتاج المعارف العلمية والتكنولوجية المتقدّمة ونشرها واستخدامها، على نحو كثيف في مختلف القطاعات الإنتاجية».
بحسب منظمة العمل الدولية، فإن تحسين نتائج سوق العمل يتطلب الانتقال من اقتصاد يعتمد على الاستيراد إلى اقتصاد موجّه للتصدير، «وهذا ليس سهلاً، ويتطلّب مجموعة من السياسات الضريبية والصناعية والقطاعية والاقتصاد الكلي، من بين أمور أخرى»، وفق منسقة البرامج الوطنية في المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية آية جعفر. مع ذلك، «من المهم بذل الجهود لتحديد نقاط الدخول إلى انتقال ناجح».
لقراءة المقال كلملًا: اضغط هنا