متعباً من السفر، صامتاً من كثرة الفقد، منهكاً من قسوة الحنين، منكسراً من خيبة العمر،
هكذا عاد لبنت جبيل ابنها الحاج غسان بهجت بزي.
عاد كما تعود السنونو إلى السقف الذي حماها من الريح، قاطعاً المسافة الأخيرة بين الغربة والوطن.
عاد لا كما أراد، بل كما شاء القدر… محمولًا على الأكف، مكللًا بالورد والدمع. عائدًا إلى البلدة التي ظلّ يحنّ إليها في كلّ يوم من غربته التي امتدت لعشرات السنين.
تلك البلدة التي أضناها بانتظاره، استقبلته كما تستقبل الأمّ ابنها العائد من بردٍ طويل، فغسلت غيابه بالدموع الدافئة، ونثرت عليه صمتها بزهورٍ جمعتها ذات ربيع.
الحاج غسان، وجهٌ من وجوه بنت جبيل، من ترابها الذي يشبه الناس فيها، من طيبتهم وكبريائهم وصبرهم الطويل.
كان حلمه الأخير أن يقضي ما تبقّى من عمره فيها، بين ناسها وأزقّتها، في بيتٍ بناه بالحب والتعب، ليكون ملاذه الأخير. لكنّها الأحلام، تسرقها يدّ أوّل الصباحات.
عاد غسان إلى بيته، كطائر مهاجر، في تحيّةٍ أخيرة إلى المكان الذي سكنته الروح، حيث لم يكن للجسد فرصة أن يهنئ فيه.
سنوات طويلة، أفناها الراحل في نيويورك، يعمل ليل نهار، آملاً بغدٍ تحاوطه رائحة الطيون والزعتر في البلاد التي قدّم لأجلها أغلى ما عنده، إلا أنّ تعبّه كلّه ذهب مع الريح ذات نهار وكان هذا البلاء الصعب كما كل اللبنانيين..
عرف الفقد باكراً، فصار خليله. فمنذ رحيل والده، مال الغصن الأول من شجرة حياته، وبعد غياب ريما شقيقته الهادئة تساقط عنه الندى الذي كان يبلّل أيامه، حتى جاء نبأ استشهاد شقيقه محمد في الحرب الأخيرة، لتُقتلع جذور القلب من تربته. فغسان قال في يوم ليس بعيد أنّه لا يستطيع العيش دون أنيس روحه ولا تطيب له بنت جبيل بغيابه، ليصير الكلام قدراً، يثكل الأم الحزينة "ام وسيم" التي لم تعرف بمرض ابنها إلا قبل أيام قليلة فغسان لم يكن يريد ان يخبرها بكل مشوار الالم.
كان غسان قد عزم على العودة حينما اشتدت عليه وطأة المرض، فكان الحلم بسيطًا كدعاء: أن يُجلس قليلاً في ظلّ ساحة النبيّة، يسمع أذان الجامع الكبير ولو لمرة أخيرة ويغمض عينيه التي أتعبتها رياح الفقد في بنت جبيل. لكنّ الألم سبقه، فانكفأ في المطار كطائرٍ أنهكه التحليق، فعاد أدراجه إلى غربته جسدًا منهكًا، يجرّ ورائه روحًا لم تكتمل رغبتها في الوصول.
كان رجلًا يخبئ وجعه كما يخبئ أهالي القرى حنينهم. وفيًّا للناس، يساعد من يحتاج دون أن يحرجه، وصديقاً للغريب قبل القريب.
في يوم تشييعه، غصّت بنت جبيل الحزينة بأهلها ومحبيه. امتزجت الدموع بالذكريات الكثيرة، وحُمل نعشه بين أيدٍ تعرف أنه لم يغب عنها يومًا وكان هذا اخر ما خطه بيده .
رحل غسان بهجت بزي عن تسعةٍ وخمسين عامًا، تاركاً وراءه سيرة رجلٍ تعب بصمتٍ، وأحبّ بصمتٍ، ومات بشوقٍ عظيم. تاركاً خلفه عائلةً تشبهه في ملامحها وسكينتها وحملت منه طيبة القلب وصلابة الصبر، لتكمل عنه الحلم الذي لم يسعفه العمر لإتمامه.
تغفو بنت جبيل اليوم وهي أقل غربة وأكثر ثِقَلًا، فقد استردّت ابنها الذي ما غادرها يومًا.
ذلك الرجل الذي عاش غريبًا، ومات قريبًا، فغفى في حضن الأرض التي ظلّت تنتظره.. حتى آخر الحنين.
تغطية مباشرة
-
لُقّب بـ"البطل".. إشادات أسترالية بالمسلم أحمد الأحمد الذي نزع سلاح أحد المسلّحَين اللذين نفّذا هجوم بوندي في سيدني. تتمة...
-
شجرة الميلاد في مغارة على عمق ٣٠ مترًا في البحر قبالة شاطئ العقيبة تتمة...
-
إذاعة الجيش الإسرائيلي: القضاة رفضوا طلب نتنياهو إلغاء جلسة استماع مقررة غداً لكنهم سيعقدون جلسة مختصرة
-
وسائل إعلام أسترالية: الشخص الذي انتزع سلاح أحد المهاجمين في شاطئ بونداي مسلم