لبنان: 96171010310+     ديربورن: 13137751171+ | 13136996923+
11,478 مشاهدة
A+ A-

بنت جبيل.اورغ 

انطلقت الضربات الجوية الأميركية اليوم بكثافة غير مسبوقة، أكثر من سبعين غارة مركزة في عمق الجغرافيا السورية، في مشهد لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى التي تعيشها البلاد. اللافت في هذه العمليات ليس حجمها فقط، بل الغطاء السياسي الذي أحاط بها، إذ نُفذت بمباركة مباشرة من احمد الشرع، في سابقة تعكس طبيعة المرحلة الجديدة وحدود السيادة فيها. هذه الغارات، التي قادتها الولايات المتحدة من الجو، لم تستهدف دولة أو جيشا نظاميا، بل ضربت تنظيم داعش، فيما كانت مجموعات أخرى تنتمي إلى المدرسة الفكرية نفسها تخوض معاركها على الأرض، في صورة تختصر المشهد السوري بكل تناقضاته.
ما جرى اليوم يؤكد أن سوريا دخلت طورا أكثر تعقيدا، لا أقل. فبينما تتولى واشنطن الضربات الجوية الدقيقة، تنشغل الجماعات الأصولية بتصفية حساباتها الميدانية. أشقاء الأمس، داعش وما كان يعرف بجبهة النصرة، باتوا أعداء اليوم. التنظيمان اللذان خرجا من الرحم العقائدي ذاته، وتغذيا من النصوص والخطاب نفسه، يضربان بعضهما بعضا على الأرض السورية، فيما تُدار المعركة الكبرى من السماء وبالطائرات الامريكية. هنا، يسجّل لإدارة دونالد ترمب نجاح واضح في إدارة صراع معقد، قائم على تفكيك الخصم عبر تناقضاته الداخلية، لا عبر مواجهة مباشرة مكلفة.
تنظيم ما يعرف بالدولة الاسلامية الارهابي  لم يسقط فكريا، بل تراجع عسكريا فقط. ما زال يحمل الذهنية نفسها، ويؤمن بالأدوات ذاتها، وينتظر لحظة الفوضى للعودة عبر التفجيرات والعمليات الانتحارية. في المقابل، الجماعات التي انحدرت من تجربة جبهة النصرة تحاول اليوم إعادة التموضع، مقدمة نفسها كقوة “أكثر انضباطا” أو “أقرب إلى الواقع السياسي”، لكنها لم تقدم أي قطيعة فكرية حقيقية مع الماضي. النتيجة أن الصراع لم يعد بين تطرف ونقيضه، بل بين تطرف وآخر، يتقاتلان على الأرض، فيما تستثمر واشنطن هذا الصدام لصالحها.
هذا الواقع يفتح الباب أمام مخاوف جدية من مرحلة قادمة أكثر دموية. كلما اشتد الاقتتال بين هذه الجماعات، زادت احتمالات عودة التفجيرات العشوائية والعمليات الانتحارية، سواء ضد الخصوم المباشرين أو في قلب المناطق المدنية. التجربة السورية، كما التجربة العراقية من قبل، تقول إن التنظيمات الأصولية حين تُحاصر، تلجأ إلى أقصى أشكال العنف لإثبات الوجود. وسوريا اليوم، بضعف مؤسساتها وتفككها الاجتماعي، تبدو أرضا خصبة لعودة هذا السيناريو.
ورغم الخطاب الذي يروّج لسوريا “ما بعد الأسد” كبلد تحرر وبدأ صفحة جديدة، إلا أن الوقائع الميدانية تشير إلى أن التغيير بقي شكليا. الأشخاص تغيّروا، العناوين تبدلت، لكن العقلية التي تحكم السلاح والأمن لم تتغير. ما زالت القوة هي الأداة الأساسية لإدارة الخلاف، وما زال العنف يُستخدم كوسيلة حكم. في هذا الإطار، يصبح الصدام بين النظام الحالي في دمشق ومجموعات أصولية أخرى، بينها داعش، مسألة وقت أكثر منه احتمال نظري.
تعقيد المشهد لا يقتصر على الداخل السوري. إسرائيل دخلت بقوة على خط المرحلة الجديدة، مطالبة بإنشاء منطقة عازلة تمتد من جنوب دمشق وصولا إلى جبل الشيخ. هذا الطرح يعكس قلقا إسرائيليا عميقا من الفوضى السورية، ومحاولة واضحة لإعادة رسم الواقع الأمني في الجنوب، بما يتجاوز اتفاقات فض الاشتباك التقليدية. الجنوب، كما الشمال والشرق والساحل، بات جزءا من لوحة شديدة التشابك، حيث تتداخل الحسابات الأمنية مع الطموحات السياسية، وتُرسم خطوط تماس جديدة فوق أنقاض القديمة.
في المقابل، تتعامل الولايات المتحدة مع هذا المشهد بعين باردة. واشنطن لا تراهن على استقرار سريع، ولا تبدو مقتنعة بأن سوريا شهدت تحولا بنيويا حقيقيا. لهذا السبب، أبقت على منع السياحة السورية إلى أراضيها، في إشارة سياسية واضحة إلى أن الشكوك الأمنية والفكرية ما زالت قائمة. هذا القرار ليس إداريا، بل يعكس قناعة بأن البيئة التي أنتجت التطرف لم تُفكك بعد، وأن المخاطر ما زالت كامنة تحت السطح.
أما ما يروّج عن رفع قانون قيصر، فيبدو أقرب إلى خطاب سياسي منه إلى تغيير جذري في الموقف الأميركي. الحديث عن تخفيف أو تعليق بعض الإجراءات لا يعني أن واشنطن رفعت يدها عن أدوات الضغط. هذا الملف يرتبط بشكل وثيق بالعلاقة الأميركية السعودية، وبالدور الذي يلعبه محمد بن سلمان حيث تتقاطع السياسة مع الاقتصاد، وتدخل الاستثمارات السعودية الضخمة كعامل مؤثر في تليين بعض المواقف، من دون أن يصل ذلك إلى حد الثقة الكاملة بالنظام السوري الجديد.

كل ذلك يعزز الانطباع بأن النظام الحالي في دمشق يتحرك ضمن هامش ضيق مرسوم أميركيا. ليس حليفا بالمعنى التقليدي، لكنه أيضا ليس خصما. يتحرك حين يُسمح له، ويتوقف حين يُطلب منه التوقف. هذا التموضع يجعل منه أداة وظيفية في مرحلة انتقالية مضطربة. من هذه الزاوية، تسجل واشنطن لنفسها قدرة واضحة على ضبط الإيقاع، من دون الانخراط في حرب برية جديدة، ومن دون تحمل كلفة سياسية أو بشرية مباشرة.
المشهد السوري اليوم يمتد بتعقيده من الشمال المتخم بالفصائل، إلى الساحل المثقل بالحساسيات، إلى الشرق حيث فلول داعش، وصولا إلى الجنوب الذي بات ساحة تجاذب إسرائيلي أميركي سوري. إنها خريطة مفتوحة على احتمالات خطرة، حيث يتقاتل المتطرفون على الأرض، وتضرب الطائرات من الجو، وتُدار المعركة بمنطق الاستنزاف المتبادل.
في الخلاصة، الضربات الأميركية اليوم ليست حدثا معزولا، بل عنوان لمرحلة كاملة. مرحلة اذا صح القول "يُضرب فيها داعش بداعش"، وتُدار فيها الفوضى لا تُنهى، وتُستخدم فيها تناقضات الأصوليين كأداة استراتيجية. قد يختلف كثيرون حول أخلاقيات هذا النهج، لكن من حيث الوقائع، يصعب إنكار أن واشنطن، وترامب تحديدا، نجحا في إعادة خلط الأوراق، وضرب الارهاب وفرض معادلة تجعل شركاء ارهاب الامس يقتلون بعضهم اليوم، فيما تبقى الولايات المتحدة اللاعب الأكثر تأثيرا في سوريا، ولو من خلف الطائرات.


تغطية مباشرة آخر الأخبار

  • بعد قصف سوريا الليلة الماضية.. ترمب يعيد رسم المعركة في سوريا.. السماء لأميركا والأرض لورثة داعش: فلينهشوا بعضهم البعض! تتمة...
  • "إن بي سي" عن مسؤولين أميركيين: من المتوقع أن تستمر "الضربات" الأميركية ضد داعش في سوريا أسابيع أو أشهرا
  • القوات الأميركية تطلق أكثر من 100 قنبلة وصاروخ دقيق على "داعش" في سوريا بمشاركة مقاتلات أردنية تتمة...
  • بعد بلاغ عن سرقة مرآب في عيتا الشعب.. قوى الأمن توقف المشتبه به تتمة...