منذ أن امتهن الصحافة، منذ نحو ثلاثة عقود، أعطى صديقي الإعلامي حسين سعد حيزاً من وقته وصفحات الصحف المفتوحة أمام القراء، للرواد والمبدعين وصانعي الأمجاد السياسية والاجتماعية والثقافية في جنوب لبنان، وتحديداً في مدينة صور التي كانت أولاً مقراً ومنطلقاً لعمله الصحافي، وثانياً لقربها من مسقط رأس ولادته، طير دبا، جارة المدينة الساحلية الأشهر والأعتق في التاريخ والذاكرة والتقدم.
ثمّة وجوه عريقة صنعت الذاكرة الجنوبية "القريبة" من نحو 12 عقداً متوالياً، في صور والجوار، وتركت بصماتها في تأسيس الأحزاب السياسية المناطقية وفي تفعيلها، من الشيوعيين إلى القوميين العرب، من ثورة العام 1958 إلى المقاومة الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي وتنامي الحركة الوطنية اللبنانية، من شيوع حركة الإمام السيد موسى الصدر من صور المُنطلق، إلى مقاومة الاحتلال المباشر وأكبر صفعة تلقاها العدو في عملية الاستشهادي أحمد قصير، ناهيك عن تأليف المنتديات الثقافية والرياضية والفنية، والحرف المتوارثة المتأصّلة، إلى كلّ من ساهم من بعيد أو قريب، في صناعة هذه الذاكرة الخالدة، فكانت الوجوه مصابيح أضاءت فكرة كتاب "أبي مازن" حتى صدوره منذ أيام قليلة عن "دار الفارابي" تحت عنوان "مصابيح الذاكرة، وجوه الرحلة ومطارحها".
قبل رحيل معظمهم، اقترب حسين سعد وثيقاً من وجوه كتابه، تعرف إلى معظمهم واحداً واحداً، خالطهم في الحوار والمعرفة، مستمعاً إلى تجاربهم من أفواههم، أو إلى رواياتهم عن تجارب الأسلاف والسابقين. وثّق كثيراً من الحكايا والذاكرة وفصول المقاومة الفلسطينية- اللبنانية، لكنه عندما قرر إصدار مطبوعته التي تفوح من ورقها رائحة الوفاء والتقدير لصانعي التاريخ الحديث، سلّط قلمه باتجاههم ليكونوا هم أعينهم محور هذه الذاكرة التي جمعت بين دفتيها الكثير الكثير من المحطات والتواريخ والعلامات الفارقة في تاريخ مدينة صور وقضائها، وامتداداً نحو أقضية بنت جبيل والنبطية.
لا يمكن في كتاب حسين سعد فصل تجارب الجنوبيين و"الصوريين" عن التجربة الفلسطينية بميادينها المقاومة والشعبية والثقافية، التي تركت هي الأخرى بصماتها الواضحة على المسارات الحياتية وميادينها، كونها كانت الأقرب من حيث القلب والمسافة إلى فلسطين، إذ بضعة كيلومترات قليلة فقط تفصل صور وقضاءها عن التراب "المقدس" في فلسطين، فكانت هذه المنطقة منطلقاً لأهم العمليات الفدائية باتجاه الأراضي المغتصبة في فلسطين، من مجموعة عملية "دلال المغربي"، إلى الياباني كوزو اوكوموتو عاشق فلسطين إلى العديد من المحطات المفصلية، ناهيك عن المجازر الإسرائيلية المرتكبة فيها وتزامناً أو لاحقاً في العديد من القرى اللبنانية الجنوبية، وصولاً إلى مجزرتي قانا الأولى والثانية ومروحين والمنصوري وغيرها.
لن أغوص كثيراً في التفاصيل تاركاً للقراء اكتشاف الوفاء والتقدير والذاكرة الجميلة في كتاب حسين سعد "مصابيح الذاكرة" بكل أبعادها، مشيراً إلى أن الكتاب الصادر عن "دار الفارابي" قدم له، إلى جانب المؤلّف، نقيب المحررين الصحفيين في لبنان جوزف القصيفي، صمّم الغلاف (بكل تواضع) كامل جابر، وحمل هذا الغلاف لوحة "خنسا نصرالله وقنديلها" للفنان التشكيلي الراحل فؤاد جوهر، أما الخطوط الرئيسة فهي لشيخ الخطاطين الفنان علي عاصي.
يقول الزميل والصديق حسين سعد في كتابه: "هذه النصوص المجتمعة في كتابٍ واحدٍ، أردتُ من خلال أرشفتها من دون أي تعديل، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً على كتابة بعضها، أن تحفظ حقوق شخصيّات اجتماعيّة وحزبيّة مقاومة، ومحترفين في مهنهم، ورجالات تركوا في بيئتهم الجنوبيّة أثراً في الفنّ والرسم والاعلام، والحفاظ على الذاكرة الشّعبيّة والهويّتين اللبنانيّة والفلسطينيّة وحتّى الأمميّة. لكلّ واحد من هؤلاء قصّة وحكاية، تصلح لكي تكون مدوّنة، يستفاد من تجاربهم وعصاميّتهم. لهؤلاء مقامات مختلفة، فمنهم أشخاص معروفون على مستوى لبنان والعالم العربيّ، وآخرون عاشوا الحياة على سجيّتهم وفطرتهم المجبولة بالانتماء والبساطة. حسبي في هذا الكتاب المتواضع الذي حرصت أن تكون صوره بالأبيض والأسود، أنه يلامس، بحسب اعتقادي، جوانب مهمّة من حقب تاريخيّة للعمل المقاوم اللبنانيّ الفلسطينيّ، ومجازر العدو الإسرائيليّ بحق المدنييّن ابتداء من "صلحا" العام 1948 وحتّى مجزرتي قانا الأولى والثانية ومروحين، وتاريخ الوجود الأرمنيّ في صور، والفنار البحري، ولغة المبيّضين في قرية جويّا، وأمميين التصقوا بأرض الجنوب وصاروا جزءاً من حكاياتها. إنّ هذا الكتاب مساهمة بسيطة، تجاه أفراد عرفتهم وتفاعلت معهم من قرب، كانوا بمثابة بذار للأرض الطيّبة والنضرة، وإنني اعتذر من آخرين لم تتوافر الظروف لإنصافهم وهم الأقرب إلى قلبي أيضاً."
كامل جابر
بنت جبيل.أورغ